ج4
في الخبر الواحد
الفصل الرابع: في الخبر الواحد
البحث عن حجّيّة الخبر الواحد من أهمّ المسائل الاُصوليّة، لابتناء كثيرمن الفروع الفقهيّة عليها.
وقبل الورود في البحث ينبغي تقديم اُمور:
الأوّل: أنّ محلّ النزاع هو الخبر الذي لم يكن محفوفاً بشيء من القرائنالموجبة للقطع.
الثاني: أنّ البحث يعمّ الخبر المستفيض ـ الذي فسّروه بما كان رواته أكثرمن اثنين أو من ثلاثة ولم يبلغوا حدّ التواتر ـ سواء قلنا بكونه قسماً من الخبرالواحد أو قسيماً له وللمتواتر، إذ لا فرق في ملاك البحث عن حجّيّة الخبرالواحد ـ وهو عدم إفادة القطع ـ بين المستفيض وغيره.
كون المسألة اُصوليّة
الثالث: أنّ البحث عن حجّيّة الخبر الواحد مسألة اُصوليّة، لأنّ الملاكفي كون المسألة اُصوليّة أن تقع نتيجتها كبرى قياس الاستنباط،والمقام من هذا القبيل، فإنّا إذا أثبتنا هاهنا حجّيّة خبر الثقة ودلّخبر زرارة مثلاً على وجوب صلاة الجمعة نشكّل قياساً يثبت به وجوبصلاة الجمعة.
(صفحه268)
ولا يلزم في اُصوليّة المسألة أن يكون موضوعها من مصاديق الأدلّةالأربعة. وأمّا من ذهب إلى أنّ موضوع علم الاُصول هو «الأدلّة الأربعة»فاستشكل عليهم بأنّ البحث عن حجّيّة الخبر الواحد ليس بحثاً عن عوارضالأدلّة الأربعة، مع أنّ «موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة».
فوقعوا في تكلّفات لإدراج البحث عن حجّيّة الخبر الواحد في علمالاُصول:
نظريّة صاحب الفصول رحمهالله في المقام ونقده
فصاحب الفصول رحمهالله ذهب إلى أنّا نبحث هاهنا عن دليليّة «الخبرالواحد»(1) والبحث عن دليليّة الدليل بحث عن أحوال الدليل.
ويرد عليه ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ البحث في المسألة ليس عندليليّة الأدلّة، بل عن حجّيّة الخبر الحاكي عنها(2).
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله ونقده
وقال الشيخ الأعظم رحمهالله :
مرجع هذه المسألة إلى أنّ السنّة ـ أعني قول الحجّة أو فعله أو تقريره ـ هلتثبت بخبر الواحد أم لا تثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر والقرينة(3)؟ إنتهىموضع الحاجة من كلامه.
وناقش فيه المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
- (1) فالبحث عن حجّيّة «الخبر الواحد» هو البحث عن عوارض السنّة الحاكية على رأي صاحب الفصول رحمهالله ،بخلاف ما سيأتي من كلام الشيخ الأعظم رحمهالله ، فإنّه جعل البحث في السنّة المحكيّة. م ح ـ ى.
- (3) فرائد الاُصول 1: 238.
ج4
إنّ التعبّد بثبوتها مع الشكّ فيها لدى الإخبار بها ليس من عوارضها، بلمن عوارض مشكوكها كما لا يخفى، مع أنّه لازم لما يبحث عنه في المسألة منحجّيّة الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنّما هو الملاك في أنّها من المباحث أومن غيره لا ما هو لازمه كما هو واضح(1)، إنتهى كلامه وهو متين.
وحاصل الإشكال الثاني: أنّه لا ينبغي العدول من العنوان المذكور فيكلمات الاُصوليّين إلى لازمه، بل لابدّ من تركيز البحث على ذلك العنوان،والبحث حول اُصوليّة المسألة على طبقه.
وحاصل الإشكال الأوّل: أنّ المراد بـ «الثبوت» في قوله: «إنّ السنّة هلتثبت بخبر الواحد...» ليس الثبوت التكويني، لعدم كونه محلاًّ للنزاع، وأمّالثبوت التشريعي الذي يكون بمعنى التعبّد من قبل الشارع فلا يمكن أن يكونمن عوارض ما اُحرز أنّه قول الإمام عليهالسلام أو فعله أو تقريره، بل لابدّ من أنيكون من عوارض ما شكّ أنّه قوله عليهالسلام أو فعله أو تقريره، فرجع البحثبالأخرة إلى السنّة الحاكية؛ لأنّها هي التي شكّ في مطابقتها لقول المعصوم أوفعله أو تقريره، لا السنّة المحكيّة.
فالحقّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ كلّ مسألة تقع نتيجتها في طريقالاستنباط فهيمسألة اُصوليّة، والبحث عن حجّيّة الخبر الواحد يكون كذلك.
وكيف كان، فالمشهور بين الأصحاب حجّيّة الخبر الواحد في الجملةبالخصوص، خلافاً لجمع من الأكابر كالسيّد المرتضى والقاضي بن البرّاجوابن زهرة صاحب الغنية وابن إدريس صاحب السرائر والطبرسي صاحبمجمع البيان.
فإنّهم رحمهمالله قالوا بعدم حجّيّة الخبر الواحد بنحو السالبة الكلّيّة.
(صفحه270)
بل ادّعى السيّد المرتضى رحمهالله أنّ بطلان العمل بالخبر الواحد واضح عندالإماميّة كوضوح بطلان العمل بالقياس وألّف رسالة مستقلّة في إبطال العملبالخبر الواحد.في أدلّة المنكرين لحجّيّة الخبر الواحد
أدلّة المنكرين لحجّيّة الخبر الواحد
ولا يخفى عليك أنّهم لا يحتاجون في إثبات دعواهم إلى إقامةدليل وبرهان، إذ يكفيهم ما تقدّم من أنّ الأصل حرمة التعبّد بالمظنّة،فعلى القائلين بالحجّيّة إقامة دليل قطعي بلا واسطة أو مع الواسطة يخرجهعن تحت الأصل الأوّلي، فلو استطاع المنكرون ردّ براهين المثبتين فبها ونِعمالمطلوب لهم.
لكنّهم مع ذلك تمسّكوا بالأدلّة الأربعة لإثبات عدم حجّيّة الخبر الواحد:
حجّة المانعين من الكتاب العزيز
أمّا الكتاب: فالآيات الناهية عن اتّباع غير العلم، كقوله تعالى: «وَ لا تَقْفُما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(1) و«إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّشَيْئاً»(2) سيّما أنّ تعليق الحكم في الآية الثانية على المفرد المحلّى باللام يفيدالنهي عن اتّباع طبيعة «الظنّ» على أنّ النكرة الواقعة في سياق النفي، وهيكلمة «شيئاً» تفيد أنّ الظنّ لايُغني من الحقّ بوجه من الوجوه.
الجواب عن الاستدلال بالآيات
ج4
وقد أجاب المحقّق الخراساني رحمهالله عنها بأنّ الظاهر منها أو المتيقّن منإطلاقاتها هو اتّباع غير العلم في الاُصول الاعتقاديّة، لا ما يعمّ الفروعالشرعيّة(1).
لكن يمكن أن يناقش في هذا الجواب بأنّ ورود الآية الثانية عقيب قوله:«إِنَّ الَّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ بِالاْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ اْلأُنْثى وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْعِلْمٍ»وإن كان قرينة على أنّ موردها الاُصول الاعتقاديّة، إلاّ أنّ قوله: «إِنَّالظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» ـ بلحاظ كونه بمنزلة التعليل وبيان كبرى كلّيّة ينادي بأعلى صوته أنّ جنس الحقيقة وطبيعتها لا تسانخ الظنّ، بل بينهما كمالالمفارقة والانفصال، فالآية ظاهرة في العموم الشامل للفروع الفقهيّة وإن كانموردها الاُصول الاعتقاديّة.
سلّمنا، ولكنّ الآية الاُولى تكفي للاستدلال، ولا قرينة لها تخصّهبالاعتقادات، بل ذيلها قرينة على العموم، حيث قال: «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَبِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُوءادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْوءُلاً»، فإنّ «الفؤاد»وإن كان مربوطاً بالاُمور القلبيّة، إلاّ أنّ «السمع» و«البصر» يرتبطان بالأعمالالجوارحيّة.
ويؤيّده استشهاد الإمام عليهالسلام بهذه الآية على حرمة إطالة الجلوس في بيتالخلاء لاستماع الغناء(2).
والحقّ في الجواب عن الاستدلال بالآيات أن يقال:
إنّها عمومات مخصّصة بما سيجيء من أدلّة حجّيّة الخبر الواحد، بل وبكلّما دلّ على حجّيّة ظنّ آخر بالخصوص أيضاً.
- (2) الكافي 6: 432، كتاب الأشربة، باب الغناء، الحديث 10.