(صفحه274)
يدلّ على رفع الحكم الذي لا دليل على ثبوته، فإذا دلّ خبر زرارة مثلاً علىوجوب صلاة الجمعة، ارتفع موضوع «حديث الرفع» ولم تجر أصالة البراءةبالنسبة إلى وجوب صلاة الجمعة، فيتقدّم الخبر الواحد المثبت للحكم على«حديث الرفع» بنحو الورود.
وأمّا الحكومة: فهي عبارة عن تبيين الدليل المحكوم وتفسيره بسببالدليل الحاكم، فالدليل الحاكم لا يرفع موضوع الدليل المحكوم، بليكون ناظراً مفسّراً له ومبيّناً لحدود الموضوع وثغوره، بحيث لولاه لمفهمنا ذلك الشرح والتفسير من نفس الدليل المحكوم، كالدليل الواردبلسان نفي الشكّ عن كثير الشكّ بالنسبة إلى أدلّة الشكوك في الصلاة،فإنّ قوله: «لا شكّ لكثير الشكّ»(1) ليس بمعنى عدم كونه شاكّاً تكويناً، لأنّهيستلزم التناقض بين صدره وذيله كما لا يخفى، بل هو ناظر إلى الأحاديثالمرويّة في أحكام الشكّ في الصلاة(2)، ويبيّن أنّ المراد من تلك الأحاديث غيركثير الشكّ.
وبهذا اتّضح أنّ تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم إنّما هولأجل الشارحيّة والمشروحيّة، ضرورة أنّ الشارح مقدّم على المشروح،ولأجل ذلك لا يمكن التمسّك بإطلاق أدلّة الشكوك في مقابل دليل نفي الشكّعن كثير الشكّ.
الفرق بين الحكومة والتخصيص
أساس الفرق بين الحكومة والتخصيص أنّ مورد «الدليل الحاكم» وإن كان
- (1) ليس لنا دليل بهذا اللفظ ظاهراً، لكن ورد مضمونه في أحاديث متعدّدة، فراجع وسائل الشيعة8 : 227 ـ 229، كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة. م ح ـ ى.
- (2) هذه الأحاديث مرويّة في وسائل الشيعة 8 : 187 ـ 252، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
ج4
داخلاً في «الدليل المحكوم» حقيقةً، إلاّ أنّ «الدليل الحاكم» بعنوان أنّه شارحومفسّر لـ «الدليل المحكوم» يبيّن بحسب التعبّد الشرعي أنّه لم يكن داخلاً(1)فيه حتّى بلحاظ المراد الاستعمالي.
وهذا بخلاف التخصيص، فإنّ لسانه لسان الإخراج لا لسان النظارةوالتفسير، فـ «الخاصّ» يخرج مورده عن تحت «العامّ» الذي يشمله بحسبالمراد الاستعمالي ويحكم بأنّه لم يتعلّق به الإرادة الجدّيّة كما تقدّم.
فقوله: «لا شكّ لكثير الشكّ» يدلّ على أنّ «كثير الشكّ» لم يكن داخلاً فيأدلّة الشكوك من أوّل الأمر، لكنّ قوله: «لا تكرم زيداً العالم» يدلّ على أنّ«زيداً» كان داخلاً في قوله: «أكرم كلّ عالم» بلحاظ المراد الاستعمالي، لكنّه لميكن مراداً جدّاً.
ورود أدلّة حجّيّة الخبر على الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ما دلّ على اعتبار الخبر الواحد وارد على الآياتالناهية عن اتّباع غير العلم، لأنّ العلم في نظائر محلّ النزاع من كتاب اللّه ليسعبارة عن القطع واليقين، بل عبارة عن الدليل المعتبر، فانظر إلى قوله تعالى:«قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ»(2) فإنّ القطعواليقين القلبي لا يصلح للإخراج والإراءة، بل القابل لذلك إنّما هو المدركوالسند المعتبر، فالظنّ المقابل للعلم في الآية أيضاً كان بمعنى ما ليس لهسند ودليل.
- (1) هذا فيما إذا كانت الحكومة بلسان التضييق، وأمّا إذا كانت بلسان التوسعة ـ كما إذا قال في دليل: «أكرم كلّعالم» وفي دليل آخر: «زيد عالم» ـ كان الدليل الثاني حاكماً بدخول مورده في الدليل الأوّل تعبّداً، وإن كانخارجاً عنه حقيقةً. م ح ـ ى.
(صفحه276)
فإذا كان قوله تعالى: «لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» نهياً عن اتّباع ما ليسله حجّة معتبرة كانت أدلّة اعتبار الخبر الواحد واردةً عليه، لكون الخبرالواحد حينئذٍ سنداً ودليلاً معتبراً.
وإن أصررت على كون العلم في هذه الآيات بمعنى القطع فالخبرالواحد وإن كان ظنّيّاً بلحاظ مدلوله، إلاّ أنّه قطعي بلحاظ دليلاعتباره، والعمل بالظنّ الذي دلّ على اعتباره برهان قطعي لا يكاديصدق عليه اتّباع غير العلم لكي يندرج تحت قوله: «لا تَقْفُ ما لَيْسَلَكَ بِهِ عِلْمٌ»وإن كان العلم بمعنى القطع واليقين، لأنّا لانتمسّك بخبرزرارة مثلاً بلحاظ بعد مدلوله الظنّي، بل بلحاظ بعد دليل حجّيّته الذي يكونقطعيّاً.
والحاصل: أنّ التمسّك بالخبر الواحد خارج عن تحت قوله تعالى: «لا تَقْفُما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» وحيث إنّ خروجه يكون بإعمال التعبّد من قبل الشارعكان من مصاديق الورود لا من مصاديق التخصّص الذي يكون الخروج فيهخروجاً تكوينيّاً.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وفصّل المحقّق النائيني رحمهالله بين السيرة العقلائيّة وسائر ما دلّ على حجّيّةالخبر الواحد، فقال بالورود بل التخصّص في السيرة وبالحكومة في الباقي،فإليك نصّ كلامه رحمهالله :
نسبة تلك الأدلّة(1) إلى الآيات(2) ليست نسبة التخصيص، بل نسبة
- (1) أي: الأدلّة الدالّة على جواز العمل بالخبر الواحد. م ح ـ ى.
- (2) أي: الآيات الناهية عن العمل بالظنّ. م ح ـ ى.
ج4
الحكومة، فإنّ تلك الأدلّة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزللواقع، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع، فلا يمكن أن تعمّه الأدلّةالناهية عن العمل بالظنّ لنحتاج إلى التخصيص، لكي يقال: إنّ مفاد الآياتالناهية آبية عن التخصيص، هذا في غير السيرة العقلائيّة القائمة على العملبالخبر الموثوق به.
وأمّا السيرة العقلائيّة: فيمكن بوجه أن تكون نسبتها إلى الآيات الناهيةنسبة الورود بل التخصّص؛ لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظنّ،لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع، فالعمل بخبر الثقة خارجبالتخصّص عن العمل بالظنّ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأنتكون رادعة عن السيرة العقلائيّة القائمة على العمل بخبر الثقة، فإنّه ـ مضافإلى خروج العمل به عن موضوع الآيات الناهية ـ يلزم الدور المحال، لأنّالردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقّف على أن لا تكون السيرة مخصّصةلعمومها، وعدم كونها مخصّصة لها يتوقّف على أن تكون رادعة عنها.
وإن منعت عن ذلك كلّه، فلا أقلّ من أن يكون حال السيرة حال سائرالأدلّة الدالّة على حجّيّة الخبر الواحد، من كونها حاكمة على الآيات الناهية،والمحكوم لا يصلح لأن يكون رادعاً عن الحاكم، كما لا يخفى(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وفيه: أنّ دلالة ما عدا السيرة من أدلّة حجّيّة الخبر الواحد على إلغاء احتمالالخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع بحيث كان حاله حال العلم في عالم التشريعممنوعة، لأنّها لا تدلّ على أزيد من حجّيّة الخبر الواحد، فإنّ الشارع حينم
- (1) فوائد الاُصول 3: 161.
(صفحه278)
رأى أنّ الطريق الموصل إلى الأحكام الشرعيّة لو اختصّ بالعلم الذي لهحجّيّة ذاتيّة لانجرّ إلى تعطيل كثير من التكاليف الإلهيّة جعل بعض الظنونحجّة ـ كالقطع ـ وإن لم تكن لها حجّيّة ذاتيّة.
والحاصل: أنّ أدلّة اعتبار الخبر الواحد لا تقتضي إلاّ حجّيّته التي تكونبمعنى المنجّزيّة عند الإصابة والمعذّريّة عند الخطأ، وأين هذا من التعبّد بإلغاءاحتمال الخلاف وجعل من قام عنده الخبر عالماً بالواقع في عالم التشريع؟!
وأمّا ما ذكره رحمهالله في توجيه التخصّص أو الورود فيما إذا كانت السيرةالعقلائيّة دليلاً على حجّيّة خبر الثقة ـ من أنّ عمل العقلاء به ليس من العملبالظنّ، لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع ـ ففيه: أنّا لا نسلّم أنّ عملالعقلاء بخبر الثقة من باب حصول العلم لهم بمضمونه، بل ملاك عملهم أيضما تقدّم من أنّهم كانوا يرون أنّ الاكتفاء بالعمل بالعلم ـ الذي قلّما يتّفق ـ ينجرّإلى مشاكل عديدة اجتماعيّة، وتعطيل كثير من المعاملات العقلائيّة، واختلالالأنظمة الاقتصاديّة، فتمسّكوا لرفع ذلك بذيل بعض الأمارات الظنّيّة التيفي رأسها خبر الثقة.
وأين هذا من التخصّص أو الورود على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ؟!
وأمّا ما ذكره من عدم صلاحيّة الآيات الناهية عن العمل بالظنّلأن تكون رادعةً عن السيرة العقلائيّة القائمة على العمل بخبر الثقة،لاستلزامه الدور.
ففيه أوّلاً: النقض بعكسه، لأنّ السيرة لا تصلح لأن تكون مخصّصة للآياتالناهية إلاّ على وجه دائر، لأنّ تخصيص الآيات الناهية بالسيرة يتوقّف علىعدم ردع الآيات عن السيرة، وعدم ردعها عنها يتوقّف على تخصيصها بها.
وثانياً: أنّ التوقّف ليس من الطرفين، فإنّ مخصّصيّة السيرة تتوقّف على