ج4
الحكومة، فإنّ تلك الأدلّة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزللواقع، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع، فلا يمكن أن تعمّه الأدلّةالناهية عن العمل بالظنّ لنحتاج إلى التخصيص، لكي يقال: إنّ مفاد الآياتالناهية آبية عن التخصيص، هذا في غير السيرة العقلائيّة القائمة على العملبالخبر الموثوق به.
وأمّا السيرة العقلائيّة: فيمكن بوجه أن تكون نسبتها إلى الآيات الناهيةنسبة الورود بل التخصّص؛ لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظنّ،لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع، فالعمل بخبر الثقة خارجبالتخصّص عن العمل بالظنّ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأنتكون رادعة عن السيرة العقلائيّة القائمة على العمل بخبر الثقة، فإنّه ـ مضافإلى خروج العمل به عن موضوع الآيات الناهية ـ يلزم الدور المحال، لأنّالردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقّف على أن لا تكون السيرة مخصّصةلعمومها، وعدم كونها مخصّصة لها يتوقّف على أن تكون رادعة عنها.
وإن منعت عن ذلك كلّه، فلا أقلّ من أن يكون حال السيرة حال سائرالأدلّة الدالّة على حجّيّة الخبر الواحد، من كونها حاكمة على الآيات الناهية،والمحكوم لا يصلح لأن يكون رادعاً عن الحاكم، كما لا يخفى(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وفيه: أنّ دلالة ما عدا السيرة من أدلّة حجّيّة الخبر الواحد على إلغاء احتمالالخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع بحيث كان حاله حال العلم في عالم التشريعممنوعة، لأنّها لا تدلّ على أزيد من حجّيّة الخبر الواحد، فإنّ الشارع حينم
- (1) فوائد الاُصول 3: 161.
(صفحه278)
رأى أنّ الطريق الموصل إلى الأحكام الشرعيّة لو اختصّ بالعلم الذي لهحجّيّة ذاتيّة لانجرّ إلى تعطيل كثير من التكاليف الإلهيّة جعل بعض الظنونحجّة ـ كالقطع ـ وإن لم تكن لها حجّيّة ذاتيّة.
والحاصل: أنّ أدلّة اعتبار الخبر الواحد لا تقتضي إلاّ حجّيّته التي تكونبمعنى المنجّزيّة عند الإصابة والمعذّريّة عند الخطأ، وأين هذا من التعبّد بإلغاءاحتمال الخلاف وجعل من قام عنده الخبر عالماً بالواقع في عالم التشريع؟!
وأمّا ما ذكره رحمهالله في توجيه التخصّص أو الورود فيما إذا كانت السيرةالعقلائيّة دليلاً على حجّيّة خبر الثقة ـ من أنّ عمل العقلاء به ليس من العملبالظنّ، لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع ـ ففيه: أنّا لا نسلّم أنّ عملالعقلاء بخبر الثقة من باب حصول العلم لهم بمضمونه، بل ملاك عملهم أيضما تقدّم من أنّهم كانوا يرون أنّ الاكتفاء بالعمل بالعلم ـ الذي قلّما يتّفق ـ ينجرّإلى مشاكل عديدة اجتماعيّة، وتعطيل كثير من المعاملات العقلائيّة، واختلالالأنظمة الاقتصاديّة، فتمسّكوا لرفع ذلك بذيل بعض الأمارات الظنّيّة التيفي رأسها خبر الثقة.
وأين هذا من التخصّص أو الورود على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ؟!
وأمّا ما ذكره من عدم صلاحيّة الآيات الناهية عن العمل بالظنّلأن تكون رادعةً عن السيرة العقلائيّة القائمة على العمل بخبر الثقة،لاستلزامه الدور.
ففيه أوّلاً: النقض بعكسه، لأنّ السيرة لا تصلح لأن تكون مخصّصة للآياتالناهية إلاّ على وجه دائر، لأنّ تخصيص الآيات الناهية بالسيرة يتوقّف علىعدم ردع الآيات عن السيرة، وعدم ردعها عنها يتوقّف على تخصيصها بها.
وثانياً: أنّ التوقّف ليس من الطرفين، فإنّ مخصّصيّة السيرة تتوقّف على
ج4
عدم رادعيّة الآيات الناهية، ولا عكس.
توضيح ذلك: أنّ حجّيّة ظواهر الكتاب حجّيّة مطلقة غير متوقّفة علىعدم سيرة عقلائيّة على خلافها، بخلاف السيرة، فإنّ حجّيّتها معلّقة على كونهبمرأى ومنظر من الشارع وعدم ردعه عنها، فلا توقّف إلاّ من طرف واحد،فلا دور.
وأمّا قوله رحمهالله في آخر كلامه: «وإن منعت عن ذلك كلّه، فلا أقلّ من أنيكون حال السيرة حال سائر الأدلّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، من كونهحاكمة على الآيات الناهية».
فهو كلامٌ عجيب، فإنّ السيرة دليل لبّي، ولا تتطرّق الحكومة في الأدلّةاللبّيّة، لأنّ للحكومة خصوصيّةً ليست في التخصيص والتخصّص والورود،وهي ما تقدّم من أنّ لسان «الدليل الحاكم» لسان النظارة والشرح والتفسيربالنسبة إلى «الدليل المحكوم» وهذا من شؤون اللفظ، وأمّا الدليل اللبّي الفاقدللّسان فلا يمكن القول بكونه حاكماً على دليل آخر، ولأجل ذلك لو قامالإجماع مقام قوله: «لا شكّ لكثير الشكّ» في خروج «كثير الشكّ» عن تحتأدلّة الشكوك لجعلناه مخصّصاً لا حاكماً.
وبالجملة: التخصيص يتحقّق بالأدلّة اللفظيّة واللبّيّة، ولكنّ الحكومةلاتتحقّق إلاّ بالأدلّة اللفظيّة.
هذا تمام الكلام في الجواب عن الآيات الناهية عن العمل بالظنّ.
حجّة المانعين من السنّة
وأمّا السنّة: فطوائف من الأخبار تدلّ بتعابير مختلفة على المنع من العملبالروايات المخالفة للكتاب والسنّة:
(صفحه280)
منها: ما عن الصادقين عليهماالسلام أنّهما قالا: «لا تصدّق علينا إلاّ ما وافق كتاباللّه وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله »(1).
ومنها: ما عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث قال: «إذا جاءكم عنّا حديثفوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به، وإلاّ فقفوا عنده ثمّردّوه إلينا حتّى يستبين لكم»(2).
ومنها: ما عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: خطب النبيّ صلىاللهعليهوآله بمنى، فقال: «أيُّها الناسما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلمأقله»(3).
إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة فيها أمثال هذه التعابير.
الجواب عن الاستدلال بالأخبار
وفيه: أنّهم لابدّ من أن يدّعوا تواتر هذه الروايات، ضرورة عدم جوازالتمسّك بالخبر الواحد لإثبات عدم حجّيّته.
ولا يمكن دعوى تواترها لفظاً، لاختلاف تعابيرها، ولا معنىً، لاختلافمضامينها سعةً وضيقاً.
نعم، تواترها إجمالاً لا يمكن أن يُنكر، فلابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منمجموع هذه المضامين المختلفة، والقول بعدم حجّيّته، وهو الخبر المخالفللكتاب.
لكن لا تعدّ المخالفة بالعموم والخصوص أو بالإطلاق والتقييد ونحوهممخالفة في مقام التقنين، وإن عدّت مخالفةً عند المنطقيّين، فإنّ الموجبة الكلّيّة
- (1) وسائل الشيعة 27: 123، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 47.
- (2) وسائل الشيعة 27: 112، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 18.
- (3) وسائل الشيعة 27: 111، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15.
ج4
تناقض السالبة الجزئيّة، والسالبة الكلّيّة تناقض الموجبة الجزئيّة عندهم، وأمّالعرف فلا يرى بينهما مناقضة، بل يحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد.
فغاية ما يستفاد من الأخبار المذكورة هو عدم جواز العمل بخبر يخالفالكتاب بحيث لا يمكن بينهما الجمع العرفي، وهذا ما لا ينكره أحد من القائلينبحجّيّة الخبر الواحد.
وبهذا يندفع ما ربما يقال، من أنّ القول بحجّيّة الخبر الواحد يستلزم الأخذبكلّ واحد من هذه الأخبار التي اُقيمت على عدم حجّيّة الخبر الواحد، وليتوقّف التمسّك بها على إثبات التواتر والأخذ بالقدر المتيقّن منها.
وجه الاندفاع أنّ كلّ واحد من هذه الروايات وإن كانت حجّة عندنا، إلأنّها ـ كما عرفت ـ تختلف سعةً وضيقاً، فلابدّ من الجمع بينها بتخصيص العامّبالخاصّ وحمل المطلق على المقيّد، ويلزمه أيضاً الأخذ بالقدر المتيقّن منهوالقول بعدم حجّيّة خصوص الخبر المخالف للكتاب.
والحاصل: أنّ نتيجة الأخبار المانعة هي عدم جواز الأخذ بالخبر المخالفللكتاب، ومن قال بحجّيّة الخبر الواحد لا يقول بها بنحو الموجبة الكلّيّة،بل بنحو الموجبة الجزئيّة التي لا تنافي عدم حجّيّته فيما إذا خالف كتاب اللّهعزّ وجلّ.
استدلال المانعين بالإجماع ونقده
وأمّا الإجماع: فقد ادّعاه السيّد المرتضى رحمهالله في مواضع من كلامه، وجعله فيبعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفاً من مذهب الشيعة.
وفيه: أنّه لم يتحقّق لنا هذا الإجماع، والاعتماد على نقله تعويل على خبرالواحد، مع معارضته بدعوى الشيخ الطوسي رحمهالله الإجماع على حجّيّة الخبر