(صفحه312)
ثمّ إنّهم اختلفوا في تفسير الآية الشريفة على وجوه:
أ ـ ما ذهب إليه كثير من المتحصّلين وبعض المفسّرين من أنّ المرادبـ «النفر» في الآية النفر إلى طلب العلم وأنّ معناها أنّه ليس على المؤمنين أنينفروا كلّهم من بلادهم إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ليتعلّموا الدين ويضيّعوا ما ورائهم ويخلّوديارهم، ولكن لينفر إليه من كلّ ناحيةٍ طائفةٌ لتسمع كلامه وتتعلّم الدين منهثمّ ترجع إلى قومها فتبيّن لهم ذلك وتنذرهم.
فالمراد بـ «النفر» هنا الخروج لطلب العلم، وقال بعضهم: في هذا دليلعلى اختصاص الغربة بالتفقّه وأنّ الإنسان يتفقّه في الغربة ما لا يمكنه ذلكفي الوطن.
ب ـ ما نقله الوالبي وقتادة والضحّاك عن ابن عبّاس، من أنّ المراد هو النفرإلى الجهاد، ومعنى الآية أنّه ليس للمؤمنين أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهادبأجمعهم ويتركوا النبيّ صلىاللهعليهوآله فريداً وحيداً(1)، فهلاّ خرج إلى الغزو من كلّ قبيلةجماعة ويبقى مع النبيّ صلىاللهعليهوآله جماعة ليتفقّهوا في الدين، يعني الفرقة القاعدين،يتعلّمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام، فإذا رجعت السرايا وقد نزلبعدهم قرآن وتعلّمه القاعدون قالوا لهم إذا رجعوا إليهم: إنّ اللّه قد أنزل بعدكمعلى نبيّكم قرآناً وقد تعلّمناه، فتتعلّمه السرايا، فذلك قوله: «وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْإِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ» أي وليعلّموهم القرآن ويخوّفوهم به إذا رجعوا إليهم «لَعَلَّهُمْيَحْذَرُونَ» فلا يعملون بخلافه.
ج ـ أنّ الآية مربوطة بالنفر إلى الجهاد كما تقدّم في الوجه الثاني، لكنّ التفقّهوالإنذار يرجعان إلى الفرقة النافرة، وحثّها اللّه تعالى على التفقّه، لترجع إلىالفرقة المتخلِّفة فتحذّرها، ومعنى «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ»: ليتبصّروا ويتيقّنوا بم
- (1) هذا في السرايا، وأمّا الغزوات فكان النبيّ صلىاللهعليهوآله يصاحبهم فيها. م ح ـ ى.
ج4
يريهم اللّه من الظهور على المشركين ونصرة الدين، ولينذروا قومهم من الكفّارإذا رجعوا إليهم من الجهاد، فيخبروهم بنصر اللّه النبيّ والمؤمنين ويخبروهمأنّهم لا يسمح لهم بقتال النبيّ والمؤمنين، لعلّهم يحذرون أن يقاتلوا النبيّ صلىاللهعليهوآله فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفّار(1).
ويرد على القول الأوّل أنّه كلّما استعمل كلمة «النفر» في القرآن الكريم كانبمعنى النفر إلى الجهاد، ويستظهر منه أنّه في هذه الآية أيضاً يكون بهذالمعنى(2).
فالأمر دائر مدار القولين الأخيرين.
لكنّ التأمّل التامّ في الآية يرشدنا إلى القول الثالث، لأنّ القول الثاني خلافظاهر الآية، فإنّ الظاهر أنّ ضمير «ليتفقّهوا» في قوله: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍمِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» راجع إلى الطائفة النافرة المذكورة في الآية،وأمّا الطائفة المتخلّفة فلم تذكر فيها ليصحّ أن يرجع الضمير إليها.
على أنّ ضمير «لعلّهم يحذرون» لا يناسب أن يرجع إلى النافرينالمجاهدين في سبيل اللّه، وذلك لوجهين:
أ ـ عدم وقوعهم في طريق الغيّ والضلالة لينذرهم سائر المؤمنين القاعدينبرجاء أن يقع في أنفسهم خوف وحذر ويهتدوا إلى الحقّ.
ب ـ أنّ شأن المجاهدين أجلّ من أن يعبّر في حقّهم بكلمة «لعلّ» الدالّة على
- (1) هذه الأقوال منقولة في مجمع البيان في تفسير القرآن 5: 83 .
- (2) ويؤيّده أوّلاً: أنّ الآية وقعت في سياق آيات الجهاد والقتال، وثانياً: أنّه قيل في شأن نزولها: كان رسولاللّه صلىاللهعليهوآله إذا خرج غازياً لم يتخلّف عنه إلاّ المنافقون والمعذّرون، فلمّا أنزل اللّه تعالى عيوب المنافقينوبيّن نفاقهم في غزاة تبوك قال المؤمنون: واللّه لا نتخلّف عن غزاة يغزوها رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ولا سريّة أبداً،فلمّا أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بالسرايا إلى الغزو نفر المسلمون جميعاً وتركوا رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وحده، فأنزل اللّهسبحانه: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا» الآية، عن ابن عبّاس في رواية الكلبي. مجمع البيان في تفسيرالقرآن 5: 83 . م ح ـ ى.
(صفحه314)
احتمال تحذّرهم عقيب إنذار المنذرين، ضرورة أنّ الذين وصلت درجة إيمانهموطاعتهم للّه وللرسول إلى حدّ هيّئوا أنفسهم للشهادة في سبيل اللّه، انقادوقطعاً لما أنزل في غيابهم من الآيات القرآنيّة والفرائض الدينيّة، فوقوع التحذّرمنهم عقيب إنذار المنذرين أمرٌ قطعي، لا احتمالي، فلا يصحّ أن يعبّر في حقّهمبلفظ «لعلّهم يحذرون».
فالحقّ هو القول الثالث، فالطائفة المتفقّهة المنذرة هي الطائفة النافرةإلىالجهاد، والقوم المرجوّ تحذّرهم هم الكفّار من أقارب النافرين، ولا ريب فيصحّة التعبير في حقّهم بكلمة «لعلّ» الدالّة على صرف احتمال تحذّرهم عقيبإنذار النافرين، كما عبّر بهذه الكلمة في حقّ فرعون في قوله تعالى خطاباً إلىموسى وهارون: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُأَوْ يَخْشَى»(1).
وعلى هذا فلا ترتبط الآية الشريفة بحجّيّة الخبر الواحد أصلاً.
عود إلى أصل البحث
قد عرفت أنّ تماميّة الاستدلال بآية «النفر» على حجّيّة الخبر الواحدتتوقّف على أمرين:
أحدهما: كون الحذر واجباً على القوم عقيب إنذار المنذرين.
ثانيهما: ثبوت الإطلاق للآية، بحيث تعمّ صورة عدم حصول العلم عقيبالإنذار.
وقد عرفت أيضاً عدم تماميّة الأمر الأوّل.
وأمّا الأمر الثاني: فقد تصدّى بعضهم لإقامة الدليل عليه.
ج4
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
منهم المحقّق النائيني رحمهالله ، فإنّه استدلّ لإثبات الإطلاق بأنّ المراد من الجمعفي قوله تعالى: «لِيَتَفَقَّهُوا» وفي قوله: «لِيُنذِرُوا» هو الجمع الاستغراقيالأفرادي، لا المجموعي الارتباطي، كما أنّ الجمع في قوله: «لَعَلَّهُمْيَحْذَرُونَ»يكون استغراقيّاً، لوضوح أنّ المكلّف بالتفقّه هو كلّ فرد فرد منأفراد الطائفة النافرين أو المتخلّفين ـ على الوجهين في تفسير الآية ـ وليسالمراد تفقّه مجموع الطائفة من حيث المجموع، كما أنّه ليس المراد إنذار المجموعمن حيث المجموع، بل المراد أن يتفقّه كلّ واحد من النافرين أو المتخلّفينوينذر كلّ واحد منهم.
وبالجملة: كما أنّ المراد من الجمع في قوله تعالى: «يَحْذَرُونَ» هو الجمعالاستغراقي الأفرادي، كذلك المراد من الجمع في قوله تعالى:«لِيَتَفَقَّهُوا»و«لِيُنذِرُوا» هو الجمع الأفرادي.
فإذا كان الجمع في جميع صيغ الآية استغراقيّاً فلا يبقى موقع للإشكال فيإطلاقها واحتمال اختصاصها بصورة حصول العلم من قول المنذر، لدلالتهحينئذٍ على وجوب التحذّر على كلّ واحد من أفراد القوم عقيب إنذار كلّواحد من المتفقّهين، وأيّ إطلاق يكون أقوى من هذا الإطلاق بالنسبة إلىحالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه(1).
هذا حاصل ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام.
أقول: لا إشكال في كون الجمع في جميع صيغ الآية الشريفة استغراقيّاً، إلأنّ كلام هذا المحقّق الكبير ذو احتمالين يتمّ الاستدلال على أحدهما دون
- (1) فوائد الاُصول 3: 186.
(صفحه316)
الآخر؛ فإنّه إن أراد دلالة نفس العامّ الاستغراقي في الآية على الإطلاق مندون ضمّ مقدّمات الحكمة إليه، فلا كلام فيه بناءً على عدم افتقار ألفاظ العمومفي الدلالة على العموم إلى التمسّك بالإطلاق(1).
وإن أراد دلالته عليه بمعونة أصالة الإطلاق فلابدّ من إثبات كونه تعالىفيمقام البيان من حيث كون قول المنذر مفيداً للعلم وعدمه، ولم يثبته المحقّقالنائيني رحمهالله .
كلام المحقّق الخوئي رحمهالله في المقام
ومنهم بعض الأعلام رحمهالله ، فإنّه ذهب ـ تبعاً للمحقّق الخراساني رحمهالله (2) ـ إلىأنّالأصل في كلّ كلام أن يكون المتكلّم في مقام البيان، لاستقرار بناء العقلاء علىذلك ما لم تظهر قرينة على خلافه، كما إذا اُحرز كونه في مقام الإهمال أوالإجمال، فلانحتاج في المقام إلى إثبات كونه تعالى في مقام البيان من حيثكون قول المنذر مفيداً للعلم وعدمه، بل يكفي الشكّ في ذلك؛ لجريان أصالةكونه في مقام البيان في موارد الشكّ في ذلك(3).
هذا ما أفاده بعض الأعلام رحمهالله مع توضيحٍ منّا.
نقد كلام المحقّق الخوئي رحمهالله
وفيه: أنّه إن أراد أنّ الأصل كون المتكلّم في مقام البيان من جميع الجهاتـ بحيث إذا قال المولى: «أعتق رقبة» كان مفاده وجوب عتق مطلق الرقبة،سواء كان مؤمناً أو كافراً، عالماً أو جاهلاً، عادلاً أو فاسقاً، إلى غير ذلك من
- (1) كما هو الحقّ، وتقدّم في مبحث العامّ والخاصّ، ص262 ـ 265 من الجزء الثالث. م ح ـ ى.
- (3) مصباح الاُصول 2: 184.