ج4
إذا عرفت هذا فنقول:
للأخبار الواردة في المقام بطوائفها المتعدّدة ثلاث خصوصيّات:
أ ـ تختلف بحسب الألفاظ والعبارات.
ب ـ تتفاوت بحسب المعنى من حيث السعة والضيق.
ج ـ تتوافق في قدر جامع مشترك بينها كما سيجيء.
وعلى هذا فلا إشكال في عدم كونها متواترة لفظاً.
ولا معنىً، إن اُريد بالتواتر المعنوي توافق الأخبار المختلفة لفظاً في نقلمعنى واحد غير مختلف سعةً وضيقاً، كحديث الثقلين الذي نُقل بعباراتٍمتعدّدة(1)، وله في جميع هذه العبارات معنى واحد ومضمون فارد.
فعليه كانت الأخبار الدالّة على حجّيّة الخبر الواحد من مصاديق المتواترالإجمالي، لا المعنوي.
وأمّا لو قلنا بكفاية القدر الجامع في صدق التواتر المعنوي لكانت الأخبارالواردة في حجّيّة الخبر الواحد متواترة معنىً؛ لأنّ مفاد هذه الطوائف الأربعةوإن كان يختلف سعةً وضيقاً، إلاّ أنّ لجميعها قدراً جامعاً متيقّناً.
وبالجملة: لا ينبغي إنكار تواتر أخبار الباب، سواء سمّي تواتراً معنويّاً كمنسب إلى المحقّق النائيني رحمهالله في «أجود التقريرات»(2) أو إجماليّاً كما ذهب إليهالمحقّق الخراساني رحمهالله في «كفاية الاُصول»(3) ونسب إلى المحقّق النائيني رحمهالله في
- (1) حيث ورد في كثير منها: «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين» ـ وسائل الشيعة 27: 34، كتاب القضاء، الباب 5 منأبواب صفات القاضي، الحديث 9 ـ وفي بعضها: «إنّي تاركٌ فيكم أمرين» ـ الكافي 1: 294، كتاب الحجّة،باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين عليهالسلام ، الحديث 3 ـ وفي بعضها: «كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»ـ وسائل الشيعة 27: 189، كتاب القضاء، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 34 ـ وفي بعضآخر: «ألا وهو القرآن، والثقل الأصغر أهل بيتي» ـ بحار الأنوار 22: 476، باب وصيّته صلىاللهعليهوآله عند قربوفاته، الحديث 25 ـ إلى غير ذلك من التعابير المختلفة الواردة في الحديث الشريف. م ح ـ ى.
- (2) أجود التقريرات 3: 197.
(صفحه326)
«فوائد الاُصول»(1).
ما هو القدر المتيقّن المتّفق عليه بين أخبار الباب؟
ثمّ إنّه قد وقع الخلاف في القدر الجامع الذي يدلّ على حجّيّته جميع طوائفأخبار الباب.
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
يستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمهالله أنّه خبر الثقة، وإن لم يكن عادلاً ولإماميّاً، بل ولا مسلماً(2).
واُورد عليه بأنّ بعض هذه الأخبار ظاهرة في اعتبار التشيّع، مثل قوله عليهالسلام :«لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا»(3)، وبعضها فياعتبار العدالة، كقوله عليهالسلام في المقبولة: «الحكم ما حكم به أعدلهما»(4) بناءً علىكون الترجيح مربوطاً بالرواية(5)، فإنّ كون الأعدليّة من المرجّحات عندالتعارض يشهد على اعتبار أصل العدالة في حجّيّة الخبر.
وبالجملة: كيف يمكن القول بكفاية وثاقة الراوي في حجّيّة الخبر الواحد،مع أنّ في أخبار الباب ما يدلّ على خصوصيّتين اُخريين: التشيّع، والعدالة؟!
كلام الإمام الخميني رحمهالله في ذلك
- (1) فوائد الاُصول 3: 191.
- (2) أجود التقريرات 3: 199.
- (3) وسائل الشيعة 27: 149، كتاب القضاء، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
- (4) وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
ج4
بل يستفاد من كلام سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله ـ مضافاً إلى الاُمورالثلاثة المتقدِّمة ـ اعتبار أمرين آخرين أيضاً، لما ورد في بعض أخبار البابمن الإرجاع إلى مثل زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير الذين كانوا فقهاءأوّلاً، وكان إخبارهم عن الأئمّة عليهمالسلام بلا واسطة ثانياً، فالقدر المتيقّن منالأخبار هو الخبر الواجد لهاتين الخصوصيّتين(1).
بل يحتمل ـ مضافاً إلى هذه الاُمور الخمسة ـ دخل قيد آخر أيضاً، وهوكون الراوي كثير الرواية، مثل زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير.
والحاصل: أنّ القدر المتيقّن من روايات المقام هو حجّيّة الخبر المشتملعلى كون راويه ثقةً، شيعيّاً، عادلاً، فقيهاً، كثير الرواية، مخبراً عن المعصوم عليهالسلام بلا واسطة.
وهذا لا يفيد في زماننا هذا أصلاً، لعدم اجتماع هذه الاُمور الستّة حتّى فيرواية واحدة، ضرورة أنّ جميع الروايات وصلت إلينا بوسائط متعدّدة، وإنفرضنا اشتمال بعضها على الشرائط الخمسة الاُخر.
نعم، يتمّ الاستدلال بها من جهة المسألة الاُصوليّة التي نحن بصددها، وهيإثبات حجّيّة الخبر الواحد بنحو الموجبة الجزئيّة، في مقابل مثل السيّدالمرتضى الذي ينكر حجّيّته بنحو السالبة الكلّيّة.
فالاستدلال بالأخبار في المقام ينتج بحسب البحث العلمي الاُصولي، وإن لميترتّب عليه ثمرة عمليّة في زماننا هذا.
ما استدلّ به من الإجماع على حجّيّة الخبر الواحد
وأمّا الإجماع فقد قرّر بوجوه:
- (1) تهذيب الاُصول 2: 469.
(صفحه328)
منها: ما في كلام الشيخ الطوسي رحمهالله من دعوى الإجماع على حجّيّة الخبرالواحد.
ويرد عليه أوّلاً: أنّها معارضة بدعوى السيّد المرتضى الإجماع على عدمحجّيّته.
وثانياً: أنّه لا يمكن التمسّك في المقام بالإجماع المنقول الذي يتوقّف حجّيّتهعلى حجّيّة الخبر الواحد.
على أنّك قد عرفت(1) عدم شمول أدلّة حجّيّة الخبر الواحد للإجماعالمنقول، لاختصاصها بالإخبار عن حسّ، فلا تعمّ الإخبار عن رأيالمعصوم عليهالسلام ورضاه المنكشف من طريق اتّفاق العلماء، كما هو مبنى الإجماعاللطفي الذي ذهب إليه الشيخ رحمهالله .
ومنها: الإجماع المحصّل، بدعوى أنّا تتبّعنا كلمات الفقهاء والاُصوليّينفرأيناهم يعتقدون بحجّيّة الخبر الواحد إلاّ السيّد المرتضى وابن إدريسوبعض قليل آخر، ولا يضرّ مخالفتهم؛ لمعلوميّة نسبهم.
وفيه أوّلاً: أنّ الذي لا تضرّه مخالفة معلوم النسب إنّما هو الإجماع الدخوليالذي لا يصحّ الاعتقاد به في زمن الغيبة كما عرفت(2).
وثانياً: أنّ مستند المجمعين هذه الأدلّة التي بأيدينا، فلا قيمة لهذا الإجماع بمهو إجماع، بل لابدّ من ملاحظة نفس هذه الأدلّة.
ومنها: الإجماع المحصّل أيضاً، بدعوى أنّ السيّد المرتضى ومن تبعه لم يقولوبعدم حجّيّة الخبر الواحد إلاّ لأجل انفتاح باب العلم، بحيث لو كانوا في زمنالانسداد ـ الذي نحن فيه ـ لوافقونا في القول بحجّيّته.
ج4
والحاصل: أنّ حجّيّة الخبر الواحد عند انسداد باب العلم أمرٌ مجمعٌ عليهبين الفقهاء والاُصوليّين في جميع الأعصار والأمصار من دون نكير أصلاً.
ويرد عليه أوّلاً: الإشكال الثاني الذي أوردناه على التقرير السابق، من أنّنعلم أو نحتمل أن يكون مستند المجمعين ما بأيدينا من الآيات والروايات، فلقيمة لهذا الإجماع.
وثانياً: أنّه لا يمكن دعوى كون المنكرين بأجمعهم في عصر انفتاح بابالعلم، فإنّ منهم المفسّر الكبير الشيخ الطبرسي صاحب «مجمع البيان» وهومن المتأخّرين الذين كانوا في عصر انسداد باب العلم.
سلّمنا أنّ جميع المنكرين قالوا بحجّيّة الخبر الواحد على فرض الانسداد،إلاّ أنّا لا نعلم أنّ حجّيّته عندهم كانت من باب الظنّ الخاصّ الذي هو محلّالبحث، فلعلّهم قالوا حينئذٍ بحجّيّة الظنّ المطلق الذي من مصاديقه خبرالواحد.
هذا كلّه في الإجماع القولي منقولاً ومحصّلاً.
ومنها: الإجماع العملي، فإنّ جميع العلماء من الاُصوليّين والأخباريّينيستندون في المسائل الفقهيّة المتعدّدة إلى الخبر الواحد.
وفيه أوّلاً: أنّك قد عرفت مخالفة السيّد المرتضى ومن تبعه للعمل بخبرالواحد، فكيف يمكن دعوى عمل الجميع به لكي ينكشف به رأيالمعصوم عليهالسلام ؟!
وثانياً: أنّ آرائهم في وجه التمسّك بالخبر الواحد مختلفة:
فذهب جمع من الأخباريّين إلى أنّا نقطع بصدور جميع روايات الكتبالأربعة، وجمع آخر إلى أنّا نطمئنّ بصدورها، وجمع ثالث إلى أنّها محفوفةبقرائن موجبة للاطمئنان به، وذهب أكثر الفقهاء والاُصوليّين إلى أنّ وجه