ج4
الثاني: أنّ الاُصوليّين قالوا بجريان البرائة في جميع الشبهات البدويّة،وخالفهم الأخباريّون في خصوص الشبهات التحريميّة الحكميّة، فقالوبوجوب الاحتياط فيها.
والظاهر أنّ النزاع صغروي لا كبروي؛ لأنّ قبح العقاب بلا بيان قاعدةعقليّة مسلّمة غير قابلة للإنكار، فلا ينبغي إسناد إنكارها إلى الأخباريّين، بلإنّهم يعتقدون بعدم جريانها في الشبهات التحريميّة لأجل وجود البيان فيها،وهو ما دلّ على وجوب الاحتياط في المشتبهات.
وبعبارة اُخرى: إنّ العقل يحكم بقبح العقاب على مخالفة تكليف لم يقم عليهبيان ودليل، فلو دلّ عليه دليل لارتفع موضوع حكم العقل وصحّت العقوبةعلى المخالفة.
هذا ما تسالم عليه الاُصوليّون والأخباريّون.
لكنّ الأخباريّين قالوا: ما دلّ على وجوب الاحتياط عند الشبهات بيانرافع لموضوع تلك القاعدة العقليّة في الشبهات التحريميّة الحكميّة. بخلافالاُصوليّين، فإنّ أدلّة الاحتياط عندهم إمّا مخدوشة سندا أو دلالة، وإمّمحمولة على الشبهات المحصورة من أطراف العلم الإجمالي، وإن كان العقليحكم بلزوم الاحتياط فيها ولو لم يكن أدلّة الاحتياط، لاستقلال العقل بتنجّزالتكليف المعلوم بالإجمال كالمعلوم بالتفصيل.
فإذا عرفت ما ذكرنا من كون البحث مع الأخباريّين صغرويّا يتبيّن لك أنّهلا يكون في مقام مناقشة مقالتهم إلاّ بعض ما سيأتي من أدلّة البرائة، وهو مكان بلسانه حاكما على أدلّة الاحتياط، وأمّا مثل قاعدة قبح العقاب بلابيانفلا ينهض دليلاً عليهم، لعدم إنكارهم له كما عرفت.
(صفحه348)
في الآيات الّتي استدلّ بها على البرائة
أدلّة البرائة
استدلّوا على جريان البرائة في الشبهات البدويّة ـ وجوبيّة كانت أوتحريميّة، حكميّة كانت أو موضوعيّة ـ بالأدلّة الأربعة.
الآيات التي استدلّ بها في المقام
أمّا الكتاب:
فمنه قوله تعالى: «مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَيَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَرَسُولاً»(1).
فإنّ بعث الرسول كناية عن بيان التكليف، فذيل الآية الشريفة يدلّ علىنفي العقوبة على مخالفة تكليف لم يتبيّن للمكلّف، وهو عبارة اُخرى عن قاعدةقبح العقاب بلابيان التي يحكم بها العقل.
المناقشات الواردة على الآية الشريفة
و نوقش في الاستدلال بالآية بوجوه:
أحدها: ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله ، وهو أنّ ظاهره الإخبار
ج4
بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الاُممالسابقة(1).
نقد كلام الشيخ رحمهالله حول الآية الشريفة
وفيه أوّلاً: أنّه لا وجه لحمل الآية على تعذيب الاُمم السابقة إلاّ قوله تعالى:«مَا كُنَّا» بصيغة الماضي، مع أنّه لا يصلح له، فإنّ هذا التعبير كثيرا ما يراد بهنفي الشأنيّة، فكأنّه تعالى قال: «ليس من شأننا أن نعذّب أحدا حتّى نبعثرسولاً».
و إرادة هذا المعنى من مثل هذا التعبير متداولة، سيّما في كلمات اللّه تعالى، كمقال: «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْيَسْتَغْفِرُونَ»(2).
وثانيا: أنّ الآية السابقة عليها ـ وهي قوله تعالى: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُطَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابا يَلْقَاهُ مَنشُورا* اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىبِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبا»(3) ـ مربوطة بالقيامة، والآية اللاحقة لها ـ وهيقوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَالْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرا»(4) ـ مربوطة بالعقاب الدنيوى، فالسياق يقتضي أنيكون التعذيب في الآية المبحوث عنها عامّا للعذاب الاُخروي والدنيويكليهما، لتناسب ما قبلها وما بعدها.
وثالثا: سلّمنا اختصاص العذاب في الآية بالعذاب الدنيوي الواقع على
(صفحه350)
الاُمم السابقة، لكن يمكن الاستدلال في المقام بفحوى الآية، ضرورة أنّالعذاب الدنيوي الضعيف المنقطع إذا كان منفيّا عند عدم البيان وبعث الرسولفالعذاب الاُخروي الشديد الدائم كان منفيّا عنده بطريق أولى.
ثانيها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله ، وهو أنّ محلّ النزاع في مسألة البرائةهو استحقاق العقوبة وعدمه، والآية الشريفة إنّما تدلّ على نفي فعليّة التعذيبقبل إتمام الحجّة ببعث الرسل، وهو لا يلازم نفي استحقاقه، إذ لعلّ نفي التعذيبكان منّةً منه تعالى على عباده مع استحقاقهم لذلك(1).
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
وفيه: أنّ تعبيرات الاُصوليّين في مسألة البرائة وإن كانت ظاهرة في نفياستحقاق العقوبة، إلاّ أنّ البحث في هذه المسألة ليس من شأن الاُصولي، لأنّاستحقاق العقوبة وعدمه من المسائل الكلاميّة، لارتباطه بالمبدأ والمعاد، لأنّالبحث عن استحقاق العبد للعقوبة وعدمه يرجع إلى أنّ اللّه تعالى هل يصحّأن يعاقبه أم لا؟
والذي يصحّ أن يدّعي الاُصولي في المقام وجود المؤمّن من العقاب عندوقوع المكلّف في مخالفة التكليف الذي لم يتبيّن له، سواء تحقّق الاستحقاقللعقاب أم لم يتحقّق، ولا ريب في أنّ الآية الشريفة مؤمّنة من العذاب قبلبعث الرسول، والمحقّق الخراساني رحمهالله أيضا يعترف بذلك.
ثالثها: ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله بقوله:
وأنت خبير بأنّ مفادها أجنبيّ عن البرائة، فإنّ مفادها الإخبار بنفيالتعذيب قبل إتمام الحجّة، كما هو حال الاُمم السابقة، فلا دلالة لها على حكم
ج4
مشتبه الحكم من حيث إنّه مشتبه، فهى أجنبيّة عمّا نحن فيه(1)، إنتهى موضعالحاجة من كلامه.
والفرق بينه وبين ما تقدم من كلام الشيخ الأعظم رحمهالله أنّ مصبّ كلام الشيخهو حمل الآية على العذاب الدنيوي الواقع على الاُمم السابقة مع كون «بعثالرسول» كناية عن بيان التكليف، بخلاف مقالة المحقّق النائيني رحمهالله ، فإنّه وإنحمل الآية على العذاب الدنيوي إلاّ أنّ النكتة الأصليّة في كلامه رحمهالله هو تفسير«بعث الرسول» بـ «إتمام الحجّة» كما لا يخفى.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وفيه: أنّ بعث الرسول ليس بمعنى «إتمام الحجّة» كما ادّعاه المحقّق النائيني،بل المتفاهم منه عند العرف أنّه بمعنى بيان التكليف وإعلام الحكم.
فلا إشكال في دلالة الآية الشريفة على جريان البرائة في موارد الشكّ فيالتكليف الذي يعبّر عنه بالشبهة البدويّة.
نعم، إنّها لا تدلّ على أزيد من قبح العقاب بلابيان الذي يحكم به العقلأيضا كما عرفت، فكأنّه تعالى قال: «ليس من شأننا أن نفعل ما يحكم العقلبقبحه، فلانعذّب قبل بيان التكليف، لقبح العقاب بلابيان عقلاً».
وعليه فلافائدة للاستدلال بها لو تمّ ما سيأتي من أدلّة الأخباريّين، لأنّالآية تدلّ على نفي التعذيب قبل بيان التكليف، وأدلّة الاحتياط ـ على فرضتماميّتها ـ بيان له.
ومنه قوله تعالى: «لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآتَاهُ اللّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا»(2).
- (1) فوائد الاُصول 3: 333.