(صفحه356)
العامّ وأنّ إفادة الخصوصيّات إنّما كان بتوسيط دالّ آخر خارجي.
وكذلك الأمر في لفظ «الإيتاء» فإنّه أيضا مستعمل في معناه، وهو الإعطاء،غير أنّه يختلف مصاديقه من كونه تارةً هو الإعلام عند إضافته إلى الحكم،واُخرى الملكيّة أو الإقدار عند إضافته إلى المال أو الفعل.
و هكذا في تعلّق الفعل بالموصول، حيث لا يكون له إلاّ نحو تعلّق واحد به،ومجرّد تعدّده بالتحليل إلى نحو التعلّق بالمفعول به والتعلّق بالمفعول المطلق ليقتضي تعدّده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول(1).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
نقد ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله من قبل الإمام الخميني قدسسره
واستشكل عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله بقوله:
وأنت خبير بما فيه، فإنّ مباينة نحو تعلّق الفعل بمفعول به ـ أي المبعوثإليه ـ وبمفعول مطلق، بحيث يكون أحدهما مفروض الوجود قبل الفعل،والآخر من كيفيّات نفس الفعل، تمنع عن إرادتهما باستعمال واحد، والمرادمن تعدّد الدالّ والمدلول إن كان دالّين آخرين ومدلولين آخرين غير مفادالآية، فهو كماترى، وإن كان القرينتين الدّالّتين على المعنى المراد منها، فمع عدمإمكان إرادتهما منها معا لا معنى لإقامة القرينة والجامع بينهما مفقود، بل غيرممكن، حتّى تكون الخصوصيّات من مصاديقه(2).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
وحاصله: أنّ كلاًّ من «الموصول» ولفظ «الإيتاء» وإن أمكن أن يكون
- (1) نهاية الأفكار 3: 202.
ج4
بمعناه العامّ، إلاّ أنّ تعلّق الفعل بالموصول لابدّ من أن يكون إمّا بنحو تعلّقهبالمفعول به أو بنحو تعلّقه بالمفعول المطلق، ولا يمكن الجمع بينهما، لتباينالنسبتين، فإنّ نسبة الفعل إلى المفعول به من قبيل نسبة الشيء إلى أمر متقدّمعليه رتبةً، وإلى المفعول المطلق من قبيل نسبته إلى أمر متأخّر عنه.
والحقّ أنّ كلام الإمام رحمهالله دقيق متين.
فلا يمكن دفع إشكال الاستحالة عن الوجه الرابع بما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله أيضا.
البحث بحسب مقام الإثبات
ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمهالله وإن التزم بإمكان الوجه الرابع، إلاّ أنّه استشكل فيهبحسب مقام الإثبات، فإنّه قال:
وحينئذٍ بعد إمكان إرادة الأعمّ من الحكم والفعل والمال ولو بنحو تعدّدالدالّ والمدلول، أمكن التمسّك بإطلاق الآية على مطلوب القائل بالبرائة، منعدم وجوب الاحتياط عند الشكّ وعدم العلم بالتكليف.
ثمّ قال:
هذا، ويمكن المناقشة فيه بعدم تماميّة إطلاق الآية مع وجود القدر المتيقّنفي مقام التخاطب، حيث إنّ القدر المتيقّن منه بقرينة السياق إنّما هو خصوصالمال، ومثله يمنع عن الأخذ بإطلاق الموصول لما يعمّ المال والتكليف(1)، إنتهىموضع الحاجة من كلامه.
ويرد عليه أنّ جريان أصالة الإطلاق لا يتوقّف على انتفاء القدر المتيقّن فيمقام التخاطب، كما تقدّم في مبحث المطلق والمقيّد(2).
- (1) نهاية الأفكار 3: 203.
(صفحه358)
نعم، يمكن أن يقال: أصالة الإطلاق إنّما تجري لتشخيص المراد الجدّي بعدإحراز المراد الاستعمالي، فإنّ المولى إذا قال: «أعتق رقبةً» لانشكّ في أنّ كلمة«رقبة» استعملت في طبيعة الرقبة، لكنّا نشكّ في أنّ إرادته الجدّيّة أيضتعلّقت بهذه الطبيعة المطلقة أو بعتق الرقبة المؤمنة، فنتمسّك بأصالة الإطلاقلرفع الشكّ وتشخيص تطابق الإرادة الجدّيّة مع الاستعماليّة، والمقام ليسكذلك، لأنّا نشكّ في مرحلة الاستعمال، إذ يحتمل أن يكون «الموصول» فيالآية الشريفة مستعملاً في خصوص «المال» أو «الفعل» فلا تصل النوبة إلىإجراء أصالة الإطلاق لتشخيص المراد الجدّي.
والحاصل: أنّ الاحتمال الرابع مردود بحسب مقام الثبوت والإثبات، فلابدّمن تركيز البحث في الاحتمالات الثلاثة الاُخر، وقد عرفت إمكانها بحسبمقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الدلالة والظهور، فالحقّ أنّه لاظهور للآية في الاحتمالالذي يتوقّف عليه الاستدلال، وهو ما إذا اُريد من «الموصول» التكليف، ومن«الإيتاء» الإعلام والإيصال.
بل يمكن أن يستظهر منها بقرينة السياق أنّ «الموصول» بمعنى المال،و«الإيتاء» بمعنى التمليك.
فلا يتمّ الاستدلال بالآية الشريفة في المقام؛ لأنّ دلالتها على البرائة بعدسقوط الاحتمال الرابع تبتني على ظهورها في الاحتمال الأوّل، وهو إرادةالتكليف من «الموصول» والبيان الواصل إلى المكلّف من «الإيتاء».
كيفيّة الجمع بين الآية وأدلّة الاحتياط
- (1) راجع ص454 من الجزء الثالث.
ج4
ثمّ لو سلّم دلالة الآية على البرائة فهل هي متقدّمة على أدلّة الاحتياط،بناءً على جريانها في الشبهات البدويّة، أو الأمر بالعكس؟
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في ذلك ونقده
ذهب المحقّق العراقي رحمهالله إلى حكومة أدلّة الاحتياط على الآية الشريفة، كمكانت حاكمة على الآية السابقة(1)، فإنّه قال:
إنّ غاية مايستفاد من الآية إنّما هو نفي الكلفة والمشقّة من قبل التكاليفالمجهولة غير الواصلة إلى المكلّف، لا نفي الكلفة مطلقا ولو من قبل جعلإيجاب الاحتياط، فمفاد الآية حينئذٍ مساوق لكبرى قبح العقاب بلابيان، ومنالمعلوم عدم كون مثله مضرّا بالأخباري القائل بالاحتياط، إذ هو إنّما يدّعيإثبات الكلفة والمشقّة على المكلّف من جهة جعل إيجاب الاحتياط الواصلإلى المكلّف، بدعوى دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط عند الشكّ وعدمالعلم بالتحريم(2).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
وفيه: أنّ وجوب الاحتياط ـ على فرض ثبوته ـ ليس تكليفا مستقلنفسيّا، بحيث إذا شككنا في حرمة شرب التتن مثلاً وكان في الواقع حراما كانمشتملاً على حكمين واستحقّ المكلّف على ارتكابه عقوبتين: إحداهما لأجلمخالفة الحرمة الواقعيّة، والاُخرى لأجل مخالفة وجوب الاحتياط، بل وجوبالاحتياط حكم طريقي للتحفّظ على الواقع حتّى في الشبهات المحصورة منموارد العلم الإجمالي، فإنّ المكلّف إذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة وصلّى
- (1) وهي قوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً».
- (2) نهاية الأفكار 3: 204.
(صفحه360)
الظهر فقط فإن كان الواجب هو الظهر فلم يتحقّق منه إلاّ التجرّي، مع أنّوجوب الاحتياط لو كان تكليفا مستقلاًّ نفسيّا لكان حينئذٍ عاصيا مستحقّللعقاب، ولا يمكن الالتزام بذلك.
فإذا كان وجوب الاحتياط أمرا طريقيّا فالموجب للكلفة لا يكونإلاّ نفس التكاليف الواقعيّة، وبعد دلالة الآية على نفيها من ناحيةالتكاليف المجهولة فلاجرم يتمّ المطلوب ويصحّ التمسّك بها في قبالالأخباريّين.
وبعبارة اُخرى: إذا انتفى التكليف المجهول باستناد الآية الشريفة انتفىوجوب التحفّظ على الواقع الذي لأجله شرّع وجوب الاحتياط، فلامجاللأدلّة الاحتياط، لحكومة الآية الشريفة عليها.
هذا تمام الكلام في الآيات، وقد عرفت عدم نهوض ما ذكرنا من الآيتينفي مقابل الأخباريّين، أمّا الآية الاُولى فلأنّ مفادها هو قبح العقاببلا بيان، والأخباري يدّعي أنّ أدلّة الاحتياط بيان، وأمّا الآيةالثانية فلما عرفت من كونها غير ظاهرة في نفي التكليف، فلا تدلّ علىالبرائة أصلاً.