(صفحه394)
فسبّ النبيّ والتبرّي منه صلىاللهعليهوآله يكون من المحرّمات التكليفيّة، ومع ذلك كانمرفوعا إذا وقع عن إكراه، كما في قصّة عمّار بن ياسر، فكيف يمكن القول بعدمشمول حديث الرفع المحرّمات التكليفيّة؟!
وثانيا: ما الدليل على التفصيل بين الإكراه على المحرّمات وعلى تركالواجبات، حيث ذهبتم في القسم الأوّل إلى لزوم بلوغ الإكراه حدّ الاضطرارودخوله تحت عنوان «رفع ما اضطرّوا إليه» وفي القسم الثاني إلى بقائه تحتعنوان «ما اُكرهوا إليه» لكن مع تقييده بأن يصدق عليه عنوان «الحرج»بحيث لو لم يكن حديث الرفع لكان الوجوب مرفوعا أيضا بقاعدة نفي العسروالحرج.
على أنّه لا معنى لدخول الإكراه على ترك الواجب في قاعدة نفي الحرج؛لأنّه إن اُريد كون المكره عليه ـ وهو ترك الواجب ـ حرجيّا، فلا يعقل أنيكون حرجيّة الترك موجبة لرفع الوجوب عن الفعل، بل قاعدة نفي الحرجتختصّ بموارد حرجيّة فعل الواجب، كالوضوء والغسل ونحوهما.
وإن اُريد كون الضرر المتوعّد به من قبل المكره حرجيّا لا يتحمّل عادةًـ كما إذا أوعده بإحراق بيته أو قتل ولده لو لم يترك الصلاة ـ فلاربط له بقاعدةنفي الحرج، فإنّ هذه القاعدة تختصّ بموارد حرجيّة التكليف الإلهي منالوجوب والحرمة، حيث قال تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(1).
و بالجملة: ماذا يكون حرجيّا في المقام؟ هل هو فعل الواجب؟ فهو خلافالفرض، أو تركه؟ فلا يعقل أن تعمّه قاعدة نفي الحرج وينتج رفع الوجوبعن الفعل، أو الضرر المتوعّد به من قبل الظالم المكره؟ فهو لا يرتبط بقاعدة
ج4
نفي الحرج التي تختصّ بموارد التكاليف الإلهيّة.
والحاصل: أنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما اُكرهوا عليه» يعمّ الإكراه على المحرّماتوترك الواجبات، كما يعمّ الوضعيّات والمعاملات.
تذكرة
نعم، لابدّ من ملاحظة مقدار أهمّيّة الواجب الذي اُكره على تركه والحرامالذي اُكره على فعله، فإنّ بعض الواجبات والمحرّمات تكون من التكاليفالمهمّة التي لا يجوز مخالفتها بمثل الإكراه، فإنّ التقيّة وإن شرّعت وورد فيبعض الروايات أنّ «التقيّة في كلّ شيءٍ يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له»(1)لكن ورد في بعضها الآخر: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقيّةالدم فلا تقيّة»(2).
وهذا شاهد على أنّ بعض التكاليف لا يجوز مخالفتها بصرف التقيّةوالإكراه، أو بمثل الاضطرار أو قاعدة نفي العسر والحرج، فلا يجوز قتل نفسمحترمة ولو اُكره على قتل نفسه في صورة المخالفة، ولا يجوز الزنا ولو كانحرجيّا، ولا يسقط اعتبار إذن الجارية أو إذن أبيها في عقد نكاحها ولو كانمستلزما للعسر والحرج والمشقّة، ولا يمكن التمسّك بمثل «رفع ما اُكرهوعليه» و«مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» و«رفع ما اضطرّوا إليه» فيهذه الموارد وأمثالها.
وبالجملة: لابدّ في جريان مثل هذه القواعد وعدم جريانها من ملاحظة
- (1) وسائل الشيعة 16: 214، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 25 من أبواب الأمر والنهيوما يناسبهما، الحديث 2.
- (2) وسائل الشيعة 16: 235، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 31 من أبواب الأمر والنهيوما يناسبهما، الحديث 2.
(صفحه396)
الأهمّ والمهمّ، فلو كان مصلحة دفع الضرر عن العباد والامتنان عليهم ـ التيشرّعت لأجلها هذه القواعد ـ أقوى من مصلحة فعل الواجب وترك الحراملكانت حاكمة على دليل وجوب الواجب أو حرمة الحرام، كما إذا اضطرّ إلىشرب الخمر أو اُكره على ترك ردّ السلام.
وأمّا إذا كان مصلحة الواجب أو مفسدة الحرام أقوى من الامتنان ودفعالضرر فلا.
ومن هنا انقدح لك أنّ بعض الأحكام تختلف بالنسبة إلى أشخاص مختلفة،فلابدّ من رعايتها لبعض الأشخاص حتّى في موارد الإكراه والاضطراروالعسر والحرج وسائر القواعد الامتنانيّة، دون بعضهم، مثلاً يجوز لعوامّالناس شرب الخمر علنا إذا اُكرهوا على ذلك، وأمّا إذا اُكره سرّا من كان اُسوةللناس وعمله ملاكا لعملهم على شرب الخمر في الملأ العامّ فلا يجوز له ذلك.
هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني: فلابدّ فيه من التفصيل، فإنّ الإكراه على إيجاد المانعمشول لحديث الرفع، دون الإكراه على ترك الجزء أو الشرط، فلو اُكره المكلّفعلى الإتيان بالصلاة في ثوب متنجّس لجاز التمسّك بقوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما اُكرهوعليه» للحكم بعدم مانعيّة النجس المكره عليه لها، فتصحّ الصلاة، وذلك لأنّالإكراه تعلّق بوجود المانع، وله أثر شرعي، وهو المانعيّة، فترفع بحديث الرفع،بخلاف مسألة الجزء أو الشرط، فإنّ الإكراه تعلّق بتركهما، وليس له أثرشرعي، فإنّ الجزئيّة والشرطيّة من آثار وجود الجزء أو الشرط، لا من آثارعدمهما، فلا يمكن رفعهما بفقرة «رفع ما اُكرهوا عليه».
إن قلت: نعم، ولكنّ البطلان ووجوب الإعادة من آثار عدمهما، فإنّ الجزءأو الشرط لو ترك اختيارا لبطلت العبادة ووجبت الإعادة، فيمكن رفع
ج4
وجوب إعادة العبادة الفاقدة للجزء أو الشرط لأجل الإكراه.
قلت: كلاّ، فإنّ البطلان ووجوب الإعادة من الآثار العقليّة لترك الجزء أوالشرط، لا من آثاره الشرعيّة، فلا يمكن رفعه بحديث الرفع(1).
البحث حول جريان «حديث الرفع» في الأسباب والمسبّبات
و هاهنا مقامان من البحث:
المقام الأوّل: في الأسباب
وليعلم أنّ النسيان والإكراه والاضطرار تارة يرتبط بنفس السبب، واُخرىبخصوصيّة من خصوصيّاته.
لا إشكال في أنّ نسيان أصل السبب مساوق لعدم تحقّق المعاملة، ولإشكال أيضا في بطلان المعاملة المكره عليها، فلا يقع البيع أو النكاح أوالطلاق عن إكراه.
نعم، لا يمكن القول بعدم وقوع المعاملة المضطرّ إليها، فإنّ التمسّك بـ «رفع ماضطرّوا إليه» للحكم ببطلان هذا النوع من المعاملة خلاف الامتنان الذيلأجله ورد حديث الرفع، فإنّ من اضطرّ إلى بيع داره لأجل صرف ثمنها فيمعالجة مرضه مثلاً لوقع في صعوبة ومشقّة شديدة لو قلنا ببطلان البيع وعدمتملّكه للثمن.
وأمّا إذا ارتبط النسيان أو الإكراه أو الاضطرار بإحدى خصوصيّاتالسبب ـ كما إذا باع داره اختيارا وبطيب نفسه من دون وقوع نسيان أو إكراهأو اضطرار في مورد نفس البيع، إلاّ أنّا قلنا باعتبار العربيّة في صيغته، والبايع
- (1) نعم، يمكن التمسّك بحديث «لا تعاد» في خصوص الصلاة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه398)
نسي ذلك فأوقعها بالفارسيّة، أو اُكره عليه أو لم يتمكّن من التلفّظ بالعربيّةفاضطرّ إلى الفارسيّة ـ فما هو حكمه؟
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
ذهب المحقّق النائيني رحمهالله إلى عدم اندراجه في حديث الرفع حيث قال:
أمّا الأسباب: فمجمل الكلام فيها، هو أنّ وقوع النسيان والإكراه أوالاضطرار في ناحية السبب لا تقتضي تأثيرها في المسبّب ولا تندرج في«حديث الرفع» لما تقدّم في باب الأجزاء والشرائط من أنّ حديث الرفع ليتكفّل تنزيل الفاقد منزلة الواجد ولا يثبت أمرا لم يكن، فلو اضطرّ إلى إيقاعالعقد بالفارسيّة أو اُكره عليه أو نسي العربيّة كان العقد باطلاً بناءً على اشتراطالعربيّة في العقد، فإنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي، وليسللعقد الفارسي أثر يصحّ رفعه بلحاظ رفع أثره، وشرطيّة العربيّة ليست هيالمنسيّة حتّى يكون الرفع بلحاظ رفع الشرطيّة(1)، إنتهى كلامه.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله
والحقّ هو التفصيل بين الإكراه والاضطرار وبين النسيان.
وذلك لما تقدّم في مسألة أجزاء العبادات وشرائطها، فإنّ المكره عليهوالمضطرّ إليه هو ترك العربيّة الذي ليس له أثر شرعي قابل للارتفاع بحديثالرفع كما قال المحقّق النائيني رحمهالله .
بخلاف النسيان، فإنّ المنسيّ هو نفس العربيّة التي لها أثر شرعي، وهوالشرطيّة لصحّة العقد، فيمكن شمول عنوان «رفع ما نسوا» للعربيّة بلحاظ
- (1) فوائد الاُصول 3: 356.