ج4
سواء وصل هذا النهي إلى المكلّف وتبدّل شكّه إلى العلم بالحرمة أم لا؟» وهلهذا إلاّ ارتفاع الإباحة الظاهريّة مع بقاء موضوعه الذي هو الشكّ في الحكمالواقعي؟!
والحكم يستحيل أن يتخلّف عن موضوعه التامّ، كما يستحيل أن يتخلّفالمعلول عن علّته التامّة(1).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله في الوجه الأوّل.
وفيه أوّلاً: أنّه مبنيّ على كون «حتّى يرد فيه نهي» غاية للحكم.
وأمّا لو كان قيدا للموضوع فلا يلزم تخلّف الحكم عن موضوعه.
توضيح ذلك: أنّ الحديث بناءً على القيديّة يكون بمعنى «كلّ شيء شكّ فيحلّيّته وحرمته ولم يرد فيه نهي واقعا فهو مباح بالإباحة الظاهريّة».
فالموضوع مقيّد بقيدين، ويكفي في انتفائه انتفاء أحدهما، لأنّ المقيّد بقيودمتعدّدة ينتفي بانتفاء أحد تلك القيود، كما أنّ المركّب من أجزاء متعدّدة ينتفيبانتفاء أحد تلك الأجزاء.
فالشيء الذي شكّ في حلّيّته وحرمته لو ورد فيه نهي واقعا لانتفى الإباحةالظاهريّة لأجل انتفاء موضوعه، فلا يلزم تخلّف الحكم عن موضوعه كما ليخفى.
وثانيا: أنّ الحكم يمتنع أن يتخلّف عن موضوعه إذا كان الموضوع علّة له،وهو مبنيّ على كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد التي في متعلّقاتها، كيتكون المصلحة اللازمة الاستيفاء علّة للوجوب والمفسدة اللازمة الاجتنابعلّة للحرمة.
وأمّا إذا كان الحكم تابعا لبعض مصالح اجتماعيّة اُخرى خارجة عمّا تعلّق
(صفحه408)
به ـ مثل ما عرفت في مسألة نجاسة المشرك أو مطلق الكافر التي عبّر عنهبعضهم بأنّها نجاسة سياسيّة لا أنّها حكم تابع لقذارة في متعلّقه ـ فلا يمتنعتخلّف الحكم عن موضوعه، لعدم كون الموضوع حينئذٍ علّة للحكم كي يلزممن تخلّف الحكم عنه تخلّف المعلول عن علّته.
ب ـ أنّ الإباحة حيث إنّها مغيّاة بصدور النهي واقعا أو محدّدة بعدمصدوره واقعا، والغاية أو القيد مشكوك الحصول فلامحالة يحتاج إلىاستصحاب عدم صدوره.
واستصحاب عدم صدور النهي إن كان لغرض إثبات عدم الحرمة ظاهرفلانحتاج إلى التمسّك بالحديث، ضرورة أنّا إذا شككنا في حرمة شرب التتنمثلاً وكنّا بصدد إثبات عدم حرمته ظاهرا ووصلنا إلى هذا الغرض من طريقاستصحاب عدم ورود نهي فيه فلا معنى للتمسّك بحديث« كلّ شيء مطلقحتى يرد فيه نهي» للوصول إلى ذلك الغرض كما هو واضح.
وبعبارة اُخرى: كان الاستدلال لإثبات المقصد بالأصل لا بالخبر.
وإن كان لغرض إثبات الإباحة التي هي حكم إثباتي فقد عرفت عدمإمكان إرادة الإباحة الواقعيّة(1) ولا الظاهريّة(2) من الحديث.
وإن كان الغرض إثبات الإباحة العقليّة وعدم الحظر العقلي، ففيه: أنّالاستصحاب وسائر الاُصول العمليّة لا يمكن أن تجري لمثل هذا الغرض، لأنّالمستصحب وما يثبت بواسطة سائر الاُصول لابدّ من أن تكون إمّا أثرشرعيّا أو موضوعا ذا أثر شرعي كما ثبت في محلّه(3).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله في الوجه الثاني مع توضيح منّا.
ج4
وفيه: أنّه لا يجوز لمن أقام لإثبات شيء براهين عديدة أن يجعل أحدالبراهين مبنى للبرهان الآخر، بل لابدّ في كلّ دليل من البحث المستقلّ، بحيثلو لم يكن في المقام دليل غيره لكفى في إثبات المدّعى، وإلاّ لخرجت الأدلّة عنالاستقلال، مع أنّه رحمهالله بنى هذا الوجه الثاني على ما أثبته بزعمه في الوجه الأوّلمن عدم إمكان إرادة الإباحة الظاهريّة.
ويمكن المناقشة في أصل كلامه رحمهالله ؛ إذ يستفاد منه أنّ ما تقدّم في الوجهالأوّل من امتناع إرادة الإباحة الظاهريّة مانع وحيد من دلالة الحديث عليها،بحيث لو قطعنا النظر عنه لجرى استصحاب عدم صدور النهي ودلّ الحديثعلىالإباحة الظاهريّة من دون أن يواجه إشكالاً آخر.
ويرد عليه أنّ هذا الاستصحاب لا يجري إلاّ على القول بحجّيّة الأصلالمثبت، ضرورة أنّ الاستصحاب لو جرى لإثبات عدم صدور النهي الذي هوعبارة اُخرى عن عدم تحقّق الغاية، لاحتجنا عقيبه إلى حكم العقل بأنّ الغايةإذا لم تكن موجودة بحكم الاستصحاب فالمغيّى يكون موجودا.
والحاصل: أنّه لامنع من دلالة الحديث على الإباحة الظاهريّة، لكن ليمكن الوصول إليها من طريق استصحاب عدم ورود النهي إلاّ على القولبحجّيّة مثبتات الاُصول، وهو على خلاف ما عليه المحقّقون من الاُصوليّين.
ج ـ أنّ ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعةً للإباحة الظاهريّةالمفروضة، ومقتضى فرض عدمالحرمة إلاّ بقاءً هو فرض عدم الحرمةحدوثا، ومقتضاه عدم الشكّ في الحلّيّة والحرمة من أوّل الأمر، فما معنى جعلالإباحة الظاهريّة المتقوّمة بالشكّ في الحلّيّة والحرمة في فرض عدم الحرمةإلاّ بقاءً؟!(1)
(صفحه410)
إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
وفيه: أنّا نمنع استلزام عدم الحرمة إلاّ بعد ورود النهي عدم تحقّق الشكّ،فإنّ تحقّقه ضروري مع الشكّ في الورود وعدمه، فإنّ المكلّف إذا التفت إلىحرمة شرب التتن وعدمها محتملاً ورود النهي واقعا فلامحالة يتحقّق في نفسهالشكّ، وهو كافٍ في جعل الحكم الظاهري.
والحاصل: أنّ ما ذكره هذا المحقّق الكبير ـ من امتناع كون «الإطلاق» فيالحديث بمعنى الإباحة الشرعيّة الواقعيّة أو الظاهريّة فيما إذا اُريد من «الورود»هو الصدور من الشارع ـ غيرصحيح، بل جميع الاحتمالات ممكنة بحسب مقامالثبوت.
ولا يخفى أنّ هذا البحث وإن كان مفيدا من ناحية علميّة، إلاّ أنّهلا يرتبط بالاستدلال بالحديث في مسألة البرائة، لما عرفت من أنّالاستدلال به لا يتمّ إلاّ إذا اُريد من «الورود» وصول النهي إلى المكلّف،فما ذكره المحقّق الاصفهاني رحمهالله على فرض تماميّته لا يضرّ بالاستدلال بهفي المقام.
هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.
القول في معنى الحديث بحسب مقام الإثبات
وأمّا مفاده بحسب مقام الاستظهار والدلالة فلاشكّ في أنّ معنى قوله:«حتّى يرد فيه نهي» أنّ هذا «الإطلاق» باقٍ إلى ورود النهي، وليس المراد من«الورود» هو الورود من جانب الشرع، لانقطاع الوحي في زمن صدورالرواية، فتعيّن أن يكون المراد من «الورود» هو الوصول إلى المكلّف. وإذ
ج4
كانت الغاية هي وصول النهي إلى المكلّف وعلمه به كان المغيّى لامحالة هوالإباحة الظاهريّة لا الواقعيّة.
وأمّا الإباحة العقليّة فلا تناسب كلام المعصوم عليهالسلام الذي كان بصدد بيانالحكم الشرعي.
وحيثما عرفت أنّ الإباحة الشرعيّة الظاهريّة هي التي تناسب الغاية ـ التيهي علم المكلّف بالنهي ـ تمّ الاستدلال بالحديث على البرائة، لتحقّق ركنيه،وهما كون «الإطلاق» بمعنى الإباحة الظاهريّة، وكون «الورود» بمعنى الوصولإلى المكلّف، فالمراد بالحديث هو أنّ «كلّ شيء مباح حتّى تعلم أنّه منهيّ عنه»وهو عين ما يدّعيه القائل بالبرائة.
بقي هنا شيء
وهو أنّ الظاهر من «النهي» في الحديث هو النهي المتعلّق بالشيء بعنوانهالأوّلي، لا الأعمّ منه وممّا تعلّق بالشيء بعنوان أنّه مجهول الحكم كي تكونأدلّة الاحتياط ـ على فرض تماميّتها سندا وشمولها للشبهات البدويّة دلالةً واردة عليه(1).
والحاصل: أنّ حديث «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» معتبر سندا وقابل للاستدلال في مسألة البرائة دلالةً، ولا تتقدّم عليه أدلّة الاحتياط، بليقع التعارض بينهما لو فرض تماميّة أدلّة الاحتياط.
الاستدلال على البرائة بحديث «السعة»
- (1) حيث إنّ غاية الإباحة الظاهريّة في الحديث ـ على هذا الفرض ـ هي العلم بالنهي الواقعي أو الظاهري،ووجوب الاجتناب في الشبهات البدويّة التحريميّة ـ المستفاد من أدلّة الاحتياط فرضا ـ نهي ظاهريتحصل به هذه الغاية. م ح ـ ى.