كانت الغاية هي وصول النهي إلى المكلّف وعلمه به كان المغيّى لامحالة هوالإباحة الظاهريّة لا الواقعيّة.
وأمّا الإباحة العقليّة فلا تناسب كلام المعصوم عليهالسلام الذي كان بصدد بيانالحكم الشرعي.
وحيثما عرفت أنّ الإباحة الشرعيّة الظاهريّة هي التي تناسب الغاية ـ التيهي علم المكلّف بالنهي ـ تمّ الاستدلال بالحديث على البرائة، لتحقّق ركنيه،وهما كون «الإطلاق» بمعنى الإباحة الظاهريّة، وكون «الورود» بمعنى الوصولإلى المكلّف، فالمراد بالحديث هو أنّ «كلّ شيء مباح حتّى تعلم أنّه منهيّ عنه»وهو عين ما يدّعيه القائل بالبرائة.
وهو أنّ الظاهر من «النهي» في الحديث هو النهي المتعلّق بالشيء بعنوانهالأوّلي، لا الأعمّ منه وممّا تعلّق بالشيء بعنوان أنّه مجهول الحكم كي تكونأدلّة الاحتياط ـ على فرض تماميّتها سندا وشمولها للشبهات البدويّة دلالةً واردة عليه(1).
والحاصل: أنّ حديث «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» معتبر سندا وقابل للاستدلال في مسألة البرائة دلالةً، ولا تتقدّم عليه أدلّة الاحتياط، بليقع التعارض بينهما لو فرض تماميّة أدلّة الاحتياط.
ومنها: ما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال: «الناس في سعة ما لم يعلموا»(1).
ولا ينبغي الإشكال في دلالة الحديث على البرائة في الجملة، سواء جعلن«ما» موصولة وأضفنا كلمة «سعة» إليها، أو جعلناها مصدريّة زمانيّة وقرأنكلمة «سعة» بالتنوين.
إنّما الإشكال في أنّه هل يعارض أدلّة الاحتياط ـ على فرضتماميّتها وشمولها للشبهات البدويّة ـ أو لا يتمكّن من مقابلتها، بل هيمتقدّمة عليه؟
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
فصّل المحقّق النائيني رحمهالله بين كون «ما» موصولة وبين كونها مصدريّة حيثقال:
فعلى الأوّل يكون مفاده أنّ الناس من جهة الجهل بالحكم الشرعييكونون في سعة، فيعارض به أخبار الاحتياط الدالّة على كون الناس فيالضيق من جهة الحكم الشرعي المجهول، وعلى الثاني يكون مفاده أنّ الناسمادام لا يعلمون يكونون في سعة، فيكون أخبار الاحتياط حاكمة عليه علىتقدير تماميّة دلالتها(2).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله
و القسم الأوّل من كلامه صحيح متين، لكن يمكن المناقشة في القسم
- (1) مستدرك الوسائل 18: 20، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب 12 من أبواب مقدّمات الحدود،الحديث 4.
- (2) أجود التقريرات 3: 315.
ج4
الأخير منه، لأنّ الحديث ـ بناءً على كون «ما» مصدريّة ـ يدلّ على كونالناس في السعة مادام كونهم غير عالمين، ولا ريب في أنّ أدلّة الاحتياط لتبدّل جهل المكلّف إلى العلم.
على أنّ أصالة الاحتياط التي مجراها هو الشكّ والجهل لا يعقل أن تكونرافعةً لشكّ المكلّف وجهله كما لا يخفى.
و بالجملة: حديث «السعة» يكون في عرض أدلّة الاحتياط، من دون أنيكون بينهما تقدّم وتأخّر أصلاً، سواء كانت «ما» موصولة أو مصدريّة، فيقعبينهما التعارض.
إن قلت: فما وجه تقدّم أدلّة الاحتياط على قاعدة «قبح العقاب بلابيان»؟
قلت: ليس المراد بـ «البيان» في القاعدة خصوص بيان التكليف، بل المرادهو البيان المصحّح للعقاب على المخالفة، ولا ريب في أنّ البيان المصحّح للعقابتارةً يتحقّق في ضمن بيان التكليف، كما إذا قال: «شرب التتن حرام» واُخرىفي ضمن إيجاب الاحتياط، كما إذا قال: «إذا شككت في حلّيّة شرب التتنوحرمته يجب عليك الاحتياط».
وبالجملة: إيجاب الاحتياط لا يصيّر غير العالم بالتكليف عالما به، فليتقدّم على قوله صلىاللهعليهوآله : «الناس في سعة ما لم يعلموا» لكنّه بيان مصحّح للعقوبةعلى المخالفة، فيتقدّم على قاعدة «قبح العقاب بلابيان».
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في المقام
وفصّل المحقّق الخراساني رحمهالله بين كون الاحتياط واجبا طريقيّا، وبين كونهواجبا نفسيّا، فيعارض حديث «السعة» على الأوّل، ويتقدّم عليه على الثاني.
توضيح ذلك: أنّ وجوب الاحتياط لو كان طريقيّا لما ترتّب على موافقته