نعم، لا يبعد دعوى ظهور قوله: «بعينه» في مقابل المعلوم بالإجمال، فيكونالحديث بصدد الترخيص في ارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال حتّى يعرفالحرام بعينه، أي تفصيلاً.
كما أنّ الظاهر من قوله: «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال،حتّى تعرف الحرام بعينه» هو ذلك، أي ترخيص في التصرّف بالمال المختلطبالحرام.
فهذان الحديثان يمكن أن يكونا منسلكين في سلك الأحاديث الواردة فيالمال المختلط بالحرام(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
وحاصله: أنّ حديث «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرامبعينه» وحديث «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّىتعرف الحرام منه بعينه»(2) بمعنى واحد ولكليهما وزان وسياق واحد، فلوقلنا في الثاني باختصاصه بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي لقلنا ذلك فيالأوّل أيضا.
ويمكن المناقشة فيه بأنّا لانسلّم أن يكون الحديثان منسلكين في سلكواحد، إذ اُريد من كلمة «شيء» في الحديث الأوّل «شيء شكّ في حلّيّتهوحرمته» كما عرفت آنفا، بخلاف الحديث الثاني، فإنّ كلمة «شيء» فيهظاهرة في شيء مشتمل على كلّ من الحلال والحرام قطعا، فكيف يمكن القولبانسلاكهما في سلك واحد وإفادتهما معنى واحدا؟!
والحاصل: أنّ حديث «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه»مربوط بالشبهات البدويّة، فتدلّ على البرائة، لكنّه ـ بلحاظ كلمة «بعينه»
يختصّ بالشبهات الموضوعيّة ولا يعمّ الشبهات الحكميّة التي هي عمدة البحثفي باب البرائة.
الاستدلال على البرائة بحديث «كلّ شيء فيه حلال وحرام...»
ومنها: ما روي عن أبي عبداللّه عليهالسلام أنّه قال: «كلّ شيء فيه حلال وحرامفهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1).
اعلم أنّ في هذا الحديث جهتين من البحث:
أ ـ أنّه هل يختصّ بالشبهات الموضوعيّة، أو يعمّ الشبهات الحكميّة؟
ب ـ أنّه بناءً على اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة هل يختصّ بموارد العلمالإجمالي أو يعمّ الشبهات البدويّة أيضا ليكون قابلاً للاستدلال في مسألةالبرائة؟
أمّا الجهة الاُولى: فالحقّ فيها أنّ في الحديث قرينتين على اختصاصهبالشبهات الموضوعيّة:
الاُولى: كلمة «بعينه» على ما عرفت في الرواية السابقة.
الثانية: قوله: «فيه حلال وحرام» فإنّ ظاهره أنّ موضوع الروايةهو شيء فيه حلال بالفعل وحرام بالفعل، لا أنّه شيء فيه احتمالالحلّيّة والحرمة، فمورده ما إذا شككنا في حلّيّة المايع المردّد بين الخمروالخلّ مثلاً، إذ يصدق حينئذٍ أنّ المايع جنس له نوعان: أحدهما حلالوهو الخلّ، والآخر حرام وهو الخمر، ووجود الحلال والحرام الفعليّين هوالذي أوجب أن نشكّ في حلّيّة المايع المردّد بين الخمر والخلّ وحرمته، بحيثلو كانت جميع المايعات محلّلة أو محرّمة لمنشكّ فيه، وأمّا الشكّ في حلّيّة
(صفحه422)
شرب التتن وحرمته فليس ناشئا عن وجود نوعين مختلفين فيه، بل هو ناشٍعن عدم النصّ الدالّ على الحلّيّة أو الحرمة، أو إجماله، أو تعارض النصّينأو النصوص.
وبالجملة: إنّ الحديث بظاهره يختصّ بالشبهات الموضوعيّة.
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
لكن بعض المحقّقين ذهب إلى عدم الاختصاص حيث قال:
ولكن يمكن أن يقال بشمول الرواية للشبهات الحكميّة، نظرا إلى إمكانفرض الانقسام الفعلي فيها أيضا، كما في كلّي اللحم، فإنّ فيه قسمين معلومين:حلال، وهو لحم الغنم، وحرام، وهو لحم الإرنب، وقسم ثالث مشتبه، وهولحم الحمير لا يدرى بأنّه محكوم بالحلّيّة أو الحرمة، ومنشأ الاشتباه فيه هووجود القسمين المعلومين، فيقال ـ بمقتضى عموم الرواية ـ : أنّه حلال حتّىتعلم حرمته(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
نقد نظريّة المحقّق العراقي رحمهالله
وفيه: أنّا لانسلّم أنّ منشأ الاشتباه في لحم الحمير وجود القسمين المعلومينفي اللحم، بل منشأه هو عدم النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين.
ويشهد عليه أنّا نشكّ في حلّيّة لحم الحمير وحرمته أيضا حتّى فيما إذفرض حلّيّة جميع اللحوم الاُخرى أو حرمتها.
والحاصل: أنّ حديث «كلّ شيء فيه حلال وحرام...» ظاهر في كون الشكّفي الشيء ناشئا عن وجود القسمين فيه بالفعل، كالمايع الذي شكّ في حلّيّته
- (1) نهاية الأفكار 3: 233.
ج4
وحرمته لكونه مردّدا بين الخلّ الذي هو حلال بالفعل والخمر الذي هو حرامكذلك، وهذا من خواصّ الشبهات الموضوعيّة، لأنّ الشكّ في الشبهاتالحكميّة ناشٍ عن عدم النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين.
وأمّا الجهة الثانية: فالحقّ فيها هو اختصاص الحديث بموارد العلمالإجمالي(1).
وذلك لأنّ ظاهر قوله عليهالسلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» هو وجود الحلالوالحرام بالفعل في نفس الحادثة المبتلى بها، لا وجود الحلال والحرام في محلّهبحسب الواقع، فالحديث لا ينطبق إلاّ على الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي،كما إذا علمت إجمالاً بأنّ أحد هذين الإنائين الجزئيّين خمر والآخر خلّ لكن لميتميّز الخلّ من الخمر، فالحديث يدلّ على حلّيّة الحرام المشتبه بينهما حتىتعرفه بعينه وشخصه.
نعم، يمكن القول بعدم صحّة الأخذ بالحديث في نفس مفاده هذا، لكنّه بحثآخر يأتي في باب الاشتغال إنشاءاللّه تعالى.
والحاصل: أنّ حديث «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه»قابل للاستدلال في مسألة البرائة، لكن في خصوص الشبهات الموضوعيّة،وأمّا حديث «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرفالحرام منه بعينه» فلا يرتبط ببحث البرائة أصلاً، لكونه مربوطا بأطراف العلمالإجمالي، وأصالة البرائة لا تجري إلاّ في الشبهات البدويّة.
هذا تمام الكلام في الروايات التي استدلّ بها للبرائة.
- (1) فما ذكرناه في الجهة الاُولى من التمثيل بما إذا شككنا في حلّيّة المايع المردّد بين الخمر والخلّ إنّما هولأجل التوضيح، وإلاّ فذلك المثال خارج عن تحت الحديث، لكونه من مصاديق الشبهة البدويّة الخارجةمنه. منه مدّ ظلّه.