وتوضيح المرام في المقام أنّه لا ينبغي الارتياب في حكم العقل بقبح الإقدامعلى العمل الصادر عن اعتقاد المعصية، واستحقاق العقوبة عليه(2)، وذلك لمن جهة اقتضاء مجرّد القطع بالمبغوضيّة لصيرورة العمل قبيحاً ومعاقباً عليه،كي يدفع ذلك بأنّه خلاف ما يقتضيه الوجدان من بقاء الواقع على ما هو عليهمن المحبوبيّة لدى المولى، وعدم كون القطع بحرمة شيء بالقطع المخالف للواقعمن العناوين المغيّرة لجهة حسنه ومحبوبيّته، بل من جهة أنّ نفس إقدامه علىما اعتقد كونه مبغوضاً للمولى ومعصية له ممّا ينطبق عليه عنوان الطغيان علىالمولى، لكونه إبرازاً للجرأة عليه وخروجاً عن مراسم العبوديّة، وأنّ مبغوضيّةالعمل واستحقاق العقوبة عليه إنّما هو لأجل هذا العنوان الطاري عليه، كما هوالشأن في إقدامه على العمل من قبل العلم المصادف، حيث إنّ قبحه أيضاً إنّمهو من جهة كونه طغياناً على المولى، بإبرازه للجرأة عليه بلا خصوصيّة فيذلك لعنوان العصيان، فتمام المناط في القبح الفعلي واستحقاق العقوبة إنّما هوعنوان الطغيان المنطبق على الإقدام على ما اعتقد كونه مبغوضاً للمولىومعصية له الأعمّ من المصادف وغيره، ولا يستلزم ذلك أخذ عنوان العلم فيموضوع القبح على نحو الصفتيّة كما توهّم، بل العلم بما هو مأخوذ على نحوالطريقيّة والكاشفيّة يكون تمام الموضوع في إحداث عنوان الطغيان علىإقدامه(3)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام، وبيان الحقّ فيه
وفيه: أنّه لا وجه لكون الفعل المتجرّى به قبيحاً بعد اعترافه رحمهالله أوّلاً:ببقاء ذات العمل على ما هو عليه في الواقع، فإذا شرب الماء باعتقادالخمريّة كان ذات العمل هو شرب الماء الذي لا يكون قبيحاً أصلاً، وثانياً:بأنّ القطع بكونه مبغوضاً للمولى لا يؤثّر في قبحه، لعدم كونه من العناوينالمقبّحة.
فالحقّ أنّ قبح التجرّي فاعلي.
ويمكن القول بأنّ النزاع لفظي، فإنّهم اتّفقوا على ثلاثة اُمور: أ ـ أنّ ذاتالفعل المتجرّى به لا يكون قبيحاً، ب ـ أنّ القطع بمبغوضيّته أيضاً لا يؤثّر فيواقعيّته، ج ـ أنّ مجرّد قصد الحرام أيضاً لا يقتضي شيئاً، بل القبح يتوقّف علىالعمل الخارجي الصادر عن اعتقاد المعصية، فيمكن القول بأنّه قبح فعلي،لتوقّفه على الفعل الخارجي، وفاعلي، لأنّ الفعل لا يكون قبيحاً إلاّ بلحاظكونه مبرزاً عن خبث سريرة الفاعل وجرئته على المولى.
2ـ حرمة التجرّي
وأمّا حرمته فاستدلّ لإثباتها بوجوه:
الأوّل: قيام الإجماع على حرمة بعض مصاديقه، فإنّهم اتّفقوا على أنّ منأخّر الصلاة عن الوقت الذي ظنّ أنّه بمقدار أدائها فقط ارتكب حراماً، وإنانكشف أنّ الوقت لم يكن مضيّقاً وصلّى قبل انقضائه.
واتّفقوا أيضاً على أنّ من قطع أو ظنّ الضرر في طريق السفر وجب عليهإتمام الصلاة، وإن انكشف بعداً عدم الضرر، لكونه سفر المعصية.
نقد دعوى الإجماع على حرمة التجرّي
وفيه أوّلاً: أنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة، والمحصّل ليس بثابت، لنقل
(صفحه46)
وجود المخالف في كلتا المسألتين المتقدّمتين.
وثانياً: أنّا نحتمل أن يكون مستند المجمعين في المقام ما سيجيء من سائرأدلّة الباب، وحجّيّة الإجماع مشروطة بما إذا كان دليلاً مستقلاًّ، وأمّا إذا قطعنأو احتملنا استناده إلى دليل آخر فلابدّ من ملاحظة نفس ذلك الدليل، فإنكان تامّاً فهو المستند، لا الإجماع، وإلاّ فلا يصحّ الاستدلال بواحد منهما.
وثالثاً: أنّ مورد التجرّي هو القطع الطريقي(1)، لأنّه إن صادف الواقع تحقّقبمخالفته العصيان، وإن خالفه تحقّق بها التجرّي.
وأمّا القطع الموضوعي ـ مثل «لا تشرب مقطوع الخمريّة» ـ فلا يجريبمخالفته إلاّ العصيان، لأنّ الحرمة تعلّقت بما قطع المكلّف بخمريّته، ولو لم يكنخمراً في الواقع.
وما ذكر في المقام من قبيل الثاني، لأنّ موضوع وجوب الإتمام هو المسافرالذي سلك طريقاً يخاف فيه الضرر، فالموضوع هو الخوف الجامع بين القطعوالاحتمال العقلائي، لا نفس الضرر.
وكذلك الأمر في المسألة الاُولى، لأنّ فوريّة وجوب الصلاة لا ترتبط بنفسضيق الوقت، بل بالظنّ به، فإذا أخّر الصلاة عن الوقت المظنون الضيق كانعاصياً حقيقةً، وإن انكشف الخلاف بعداً.
الثاني: أنّ التجرّي قبيح كما تقدّم، والعقل يحكم بالملازمة بين قبح الشيءعقلاً وحرمته شرعاً.
وانقدح فساده ممّا سبق بوجهين:
أ ـ أنّ قبح التجرّي فاعلي لا فعلي كما عرفت(2).
- (1) أو ما يقوم مقامه من الأمارات المعتبرة والاُصول العمليّة. منه مدّ ظلّه.