ج4
الأخباريّين(1)، وهذا هو الجهة الثانية من الجهات الثلاثة التي أردنا التكلّم فيههاهنا.
ما هو النسبة بين قاعدة «قبح العقاب بلابيان» وأدلّة الاحتياط؟
وأمّا الجهة الثالثة: فالإنصاف أنّ أدلّة الاحتياط لو تمّت سندا وعمّتالشبهات البدويّة دلالةً لكانت حاكمة على قاعدة «قبح العقاب بلابيان» كمذهب إليه الأخباريّون، إنّما النزاع بيننا وبينهم في جريانها في الشبهات البدويّةالتي هي مجرى قاعدة «قبح العقاب بلابيان».
هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بالبرائة.
(صفحه432)
ج4
في أدلّة القول بالاحتياط
أدلّة القول بالاحتياط
استدلّ الأخباريّون لوجوب الاحتياط بالكتاب والسنّة ودليل العقل:
الآيات التي استدلّوا بها لإثبات الاحتياط
أمّا الكتاب فطوائف منه:
منها: ما اُمر فيها بالتقوى، سيّما مثل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُواللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(1) حيث إنّه يأمر المؤمنين بالدرجة العالية من التقوى، فلابدّلهم من الاجتناب عن الشبهات وما يحتمل الحرمة كي يصدق وصولهمإلىهذه الدرجة من التقوى.
وفيه أوّلاً: أنّ ارتكاب ما يحتمل الحرمة باستناد الأدلّة المجوّزة المتقدّمةلاينافي التقوى، بل زجر النفس وإبعادها عن كلّ ما يحتمل الحرمة أمرمرجوح ومذموم، قال اللّه تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِوَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ»(2).
وبالجملة: التقوى هي رعاية الحدود الإلهيّة بالاجتناب عن المحرّماتوتجويز المحلّلات، ولا يعدّ تحريم قسم من المحلّلات مرتبةً من مراتب التقوى،
(صفحه434)
بل التقوى الكاملة تقتضي القول بإباحتها وجواز ارتكابها.
وثانيا: أنّ الأوامر المتعلّقة بالتقوى إرشاديّة، كالأوامر المتعلّقة بإطاعة اللّهتعالى.
توضيح ذلك: أنّ «التقوى» عبارة عن الاجتناب عمّا علم حرمته تفصيلأو إجمالاً(1)، فإذا ورد في دليل: «لاتشرب الخمر» كان قوله تعالى: «اتَّقُواللّهَ» أمرا بالاجتناب عن الخمر التي حرّم شربها في الدليل الأوّل، وهذا الأمرلا يمكن أن يكون مولويّا، لاستلزامه استحقاق مثوبتين عند الإطاعة،وعقوبتين عند العصيان، ولا يمكن الالتزام بذلك.
ولو قيل بشمول التقوى لموارد رجحان الاجتناب ـ كالاجتناب عنمحتمل الحرمة ـ لكان الأمر بالتقوى إرشاديّا أيضا، لأنّ الأمر المولوي إنّما هوالأمر الندبي المتعلّق بنفس الاجتناب عن محتمل الحرمة، لا الأمر المتعلّقبالتقوى.
فقوله تعالى: «اتَّقُوا اللّهَ» أمر إرشادي في موارد المحرّمات والمستحبّاتكلتيهما.
كما أنّ الأمر في قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ» إرشادي، سواء كان ناظرا إلىالواجبات، كالصلوات اليوميّة، أو المستحبّات، كصلاة الليل.
تذكرة
ولا يخفى عليك أنّ الأمر بإطاعة اللّه في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو
- (1) و«التقوى» وإن لم تختصّ بالمحرّمات، بل الإتيان بالواجبات أيضا من مصاديق التقوى، إلاّ أنّ البحثهاهنا في المحرّمات. منه مدّ ظلّه.
ج4
أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(1) وإن كان إرشاديّا، إلاّ أنّالأمر بإطاعة الرسول واُولي الأمر يكون مولويّا، ولعلّ تكرار لفظ «أَطِيعُوا»كان لأجل اختلافهما في الإرشاديّة والمولويّة، ولذا لم يكرّر عند إسناده إلى«أُوْلِي الاْءَمْرِ» إذ لافرق بين الأمر بإطاعتهم وإطاعة الرسول في المولويّة.
وثالثا: أنّ الأخباريّين لا يقولون بوجوب الاحتياط إلاّ في الشبهاتالحكميّة التحريميّة، وأمّا الشبهات الوجوبيّة ـ سواء كانت حكميّة أوموضوعيّة ـ والشبهات التحريميّة الموضوعيّة فوافق الأخباريّون للاُصوليّين فيجريان أصالة البرائة فيها.
وهذا لا يلائم الاستدلال لوجوب الاحتياط بالآيات الآمرة بالتقوى، لأنّهلو جرت في الشبهات البدويّة لعمّت جميعها، من دون فرق بين التحريميّةوالوجوبيّة، ولا بين الحكميّة والموضوعيّة، فلاوجه للقول بوجوب الاحتياطفي خصوص الشبهات الحكميّة التحريميّة.
إن قلت: نعم، ولكن سائر الشبهات خرجت عن تحت الآيات بالتخصيص.
قلت: أوّلاً: لسان هذا النوع من الآيات آبٍ عن التخصيص.
وثانيا: إخراج ثلاثة أقسام من الشبهات عن تحتها وإبقاء قسم واحد فيهيستلزم التخصيص الأكثر، وهو مستهجن.
فلابدّ من القول بعدم ارتباط هذا النوع من الآيات بالشبهات البدويّة، بلمجراها هو ما إذا اُحرز التكليف من طريق العلم التفصيلي أو الإجمالي، فليصحّ الاستدلال بها في مسألة البرائة.
ومنها: الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم، مثل قوله تعالى: «لاَ تَقْفُ مَلَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(2).