وهي أنّ العقل يحكم بكون الأشياء غير الضروريّة على الحظر ما لميأذن الشارع في التصرف فيها(1)، فإنّ الإنسان عبد مملوك على الإطلاق،وقال اللّه تعالى: «ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدا مَمْلُوكا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ»(2)فإذا اقتضت الملكيّة الاعتباريّة أن لا يقدر المملوك على التصرّف فيشيء حتّى في نفسه بدون إذن مالكه، فالملكيّة الحقيقيّة كانت مقتضيةلذلك بطريق أولى، فلا يجوز شرب التتن مثلاً ما لم يحرز إذن الشارع فيه،لأنّه تصرّف في ملكه، ولا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلبإذنه(3).
ردّ الاستدلال بـ «أصالة الحظر» على الاحتياط
وفيه أوّلاً: أنّه مسألة خلافيّة، فإنّ جماعة من العقلاء يعتقدون بأصالةالإباحة العقليّة، بتقريب أنّ اللّه تعالى إذا خلق الإنسان كان جميع أفعالهوحركاته وسكناته حلالاً إلاّ ما قام الدليل على حرمته، فالذي يحتاجإلىالبيان هو الحرمة لا الجواز.
وثانيا: أنّ القائل بالبرائة يدّعي ورود الدليل على الترخيص في مواردالشبهة، وهو ما تقدّم من الآيات والروايات الدالّة على الإباحة الظاهريّة.
الثاني: «لزوم دفع الضرر المحتمل» :
توضيحه: أنّ المراد بـ «الضرر» في هذه القاعدة هو خصوص العقوبةالاُخرويّة، لأنّه لو اُريد منه خصوص الضرر الدنيوي أو الأعمّ منه ومنالعقاب الاُخروي لأنكرنا القاعدة من الأساس، إذ لا دليل على حكم العقلبلزوم دفع الضرر المحتمل الدنيوي(1).
فتقريب هذا الوجه من الدليل العقلي أنّ العقل يحكم بلزوم دفع العقابالمحتمل.
إن قلت: هاهنا قاعدة اُخرى، وهي حكم العقل بـ «قبح العقاب بلابيان»فكيف التوفيق بينهما؟
قلت: حكم العقل بـ «لزوم دفع الضرر المحتمل» وارد على هذه القاعدة،لأنّ المراد بـ «البيان» فيها أعمّ من البيان الشرعي والعقلي، وقاعدة «لزوم دفعالضرر المحتمل» بيان عقلي رافع لموضوع قاعدة «قبح العقاب بلابيان».
ردّ الاستدلال بقاعدة «لزوم دفع الضرر المحتمل» على الاحتياط
- (1) بل الضرر المتيقّن الدنيوي لا يجب دفعه، فضلاً عمّا إذا كان محتملاً، ولذلك لانحكم بوجوب الاجتنابعن التدخين، مع أنّ فيه ضررا ماليّا مقطوعا، وجسميّا محتملاً. منه مدّ ظلّه.
ج4
والاُصوليّون ذهبوا إلى عكس ما ادّعاه الأخباريّون، لأنّهم يحكمونـ بمعونة حكم العقل بـ «قبح العقاب بلابيان» ـ بعدم احتمال العقوبة في مواردالشبهة الحكميّة التحريميّة، فلا تجري قاعدة «لزوم دفع الضرر المحتمل» فيالمقام.
وحاصل ما تقدّم: أنّ الاُصولي والأخباري تسالما على وجود تينكالقاعدتين العقليّتين، إلاّ أنّهما اختلفا فيما هو المتقدّم منهما، فادّعى كلّ منهمعكس ما ادّعاه الآخر، وكلام كلّ منهما بلادليل، فماذا نفعل في المقام؟
الحقّ في الجمع بين القاعدتين
أقول: بيان الحقّ في المسألة يتوقّف على أمرين:
أ ـ لا يمكن وقوع التعارض بين هاتين القاعدتين، لأنّ الحاكم بهما هو العقلالقطعي، ويستحيل تحقّق التعارض بين حكمين قطعيّين من جميع الجهات،سواء كانا عقليّين أو شرعيّين.
ب ـ كلّ واحدة من هاتين القاعدتين وإن كانت كبرى كلّيّة قطعيّة، إلاّ أنّهلا تنتج إلاّ إذا انضمّ إليها صغريها، فلابدّ للاُصولي من إثبات عدم ورود بيانمن قبل الشارع في مورد شرب التتن مثلاً كي ينضمّ إليه قاعدة «قبح العقاببلابيان» وينتج أنّ شربه جائز، لأنّه لا يقتضي استحقاق العقوبة، ولابدّللأخباري من إحراز أنّ في شربه احتمال العقوبة كي ينضمّ إليه قاعدة «لزومدفع العقاب المحتمل» وينتج أنّ الاحتياط بالاجتناب عنه واجب كي لا يقعالمكلّف في العقوبة المحتملة.
فكلّ من الاُصولي والأخباري تمسّك في الواقع بقياس ينتج عكس مينتجه قياس خصمه، فالتعارض إنّما هو بين القياسين لا بين القاعدتين، إذ كلّ
(صفحه454)
منهما تكون كبرى لواحد من القياسين المتعارضين.
وإذا كان التعارض بين القياسين فلابدّ من ملاحظة أنّ أيّهما يكون ناقصا،وبعبارة اُخرى متأخّرا عن الآخر، فنقول:
لايمكن المناقشة في قياس الاُصوليّين، وهو أنّ «العقاب على شرب التتنعقاب بلابيان، وهو قبيح» أمّا الصغرى فهو أمر وجداني، لأنّ المكلّف إذفحص في مظانّ ورود حكم شرب التتن فحصا تامّا ويئس عن الظفر بدليلعلى حرمته ـ كما هو المفروض ـ فقد أحرز عدم البيان الواصل، وأمّا الكبرىفقد عرفت أنّه حكم عقلي قطعي.
وأمّا قياس الأخباريّين ـ وهو أنّ «في شرب التتن احتمال الضرر، ودفعالضرر المحتمل لازم» ـ فكبراه وإن كانت حكما عقليّا مسلّما، إلاّ أنّ صغراهمخدوشة.
توضيح ذلك: أنّه لا يمكن إنكار احتمال العقوبة في موارد من ارتكابالشبهة التحريميّة: 1ـ إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي، 2ـ إذا كانالارتكاب بدون الفحص، 3ـ إذا كان الفحص ناقصا، 4ـ لو لم يحكم العقلبـ «قبح العقاب بلابيان» حتّى فيما إذا كان الفحص تامّا، 5ـ لو لم يمتنع على اللّهسبحانه ارتكاب القبيح.
وأمّا إذا كانت الشبهة بدويّة أوّلاً، وفحص المكلف عن الدليل فحصا تامّموجبا لليأس عن الظفر به ثانيا، وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ثالثا،وامتنع ارتكاب القبيح عليه تعالى رابعا، فلامجال للقول بأنّ في ارتكابهاحتمال العقوبة كما لا يخفى.
وبعبارة اُخرى: احتمال العقوبة ـ مثل نفس العقوبة ـ يحتاج إلى ملاك، ولملاك له في الشبهات البدويّة الواجدة للقيود المتقدّمة.