ج4
النافية في ناحيتها، وأمّا إذا لم ينحلّ كذلك، بل كان باقيا في صفحة نفسالمكلّف ـ كما هو المفروض في كلام هذا المحقّق الكبير ـ فلماذا لم يكن مؤثّرا؟!
هل يمكن الالتزام بأنّ قيام الحجّة المعتبرة على وجوب صلاة الجمعةيوجب زوال تأثير العلم الإجمالي حتّى بالنسبة إلى صلاة الظهر مع أنّ المعلومبالإجمال تكليف فعلي من جميع الجهات، بحيث لا يرضى الشارع بمخالفته،سواء كان متعلّقا بالظهر أو الجمعة؟!
وبالجملة: وجود العلم الإجمالي يقتضي أن يحكم العقل بلزوم الإتيان بكلتالصلاتين، والحجّة الشرعيّة إنّما تقتضي أقربيّة وجوب صلاة الجمعة، وأمّزوال الوجوب عن صلاة الظهر فلا.
كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله في المقام
والمحقّق الاصفهاني رحمهالله أيضا ذهب إلى كون الانحلال في هذا القسم حكميّا،لكن بتقريب آخر، فإنّه قال:
إنّ العلم الإجمالي يتعلّق بوجوب مالايخرج عن الطرفين، لا بأحدهمالمردّد، فلا ينجّز إلاّ بمقداره، وتنجّز الخصوصيّة المردّدة كتنجّز كلتالخصوصيّتين به محال، لكن حيث إنّ كلاًّ من الطرفين يحتمل أن يكون واقعطرف ذلك الوجوب الواحد المنجّز بالعلم فيحتمل فيه العقاب، وهو الحاملبالجبلّة والطبع على فعل كلّ من المحتملين، ففي كلّ طرف يحتمل الحكم المنجّز،لا أنّه منجّز، وأمّا الحجّة القائمة على وجوب الظهر بخصوصها فهي منجّزةللخاصّ بما هو خاصّ، فليس لها في تنجيز الخاصّ مزاحم في تأثيرها،فلامحالة تستقلّ الحجّة بالتأثير في تنجيز الخاصّ بما هو خاصّ، سواء كانمقارنا للعلم الإجمالي أو متقدّما أو متأخّرا، كما لافرق بين أن تكون هذه
(صفحه460)
الحجّة شرعيّة، أو عقليّة كقاعدة الاشتغال.
ولا ريب في أنّ تنجيز الخاصّ بما هو خاصّ الذي لامزاحم له يمنع عنتنجيز الوجوب الواحد المتعلّق بما لا يخرج عن الطرفين، إذ ليس للواحد إلتنجّز واحد، فلا يعقل بقاءالعلم الإجمالي على تنجيزه الذي فرض أنّه عندتعلّقه به لامانع عن تنجّزه، فيتّبع ذات الخاصّ للخاصّ بما هو خاصّ فيالتنجّز بمنجّز لامزاحم له، وإذا دار الأمر بين منجّزين، أحدهما يزاحم الآخرفي تنجيزه ولو بقاءً، والآخر لا يزاحمه في تنجيزه ولو بقاءً، لعدم تعلّقهبالخاصّ حتّى ينجّزه، فلامحالة يكون التأثير للأوّل الذي لامزاحم له بقاءً(1)،إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
نقد نظريّة المحقّق الاصفهاني رحمهالله في الانحلال
وفيه أوّلاً: أنّ مبنى كلامه فاسد، لأنّ القول بأنّ العلم قد تعلّق بوجوب ما ليخرج عن الطرفين لا بأحدهما المردّد، خلاف الوجدان، فإنّ الوجدان أقوىشاهد على أنّ العلم متعلّق بوجوب أحدهما، بمعنى أنّ الشخص واقف على أنّالواجب هو الجمعة بمالها من الخصوصيّة أو الظهر كذلك.
وثانيا: أنّه رحمهالله فرّق بين العلم الإجمالي والحجّة القائمة على أحد طرفيه، بأنّفي كلّ طرف من أطراف العلم احتمال الحكم المنجّز، لا أنّه منجّز، وأمّا الحجّةالقائمة علىوجوبالظهر بخصوصها مثلاً فهيمنجّزة للخاصّ بماهوخاصّقطعا.
وكأنّه رحمهالله خلط بين الحجّيّة والمنجّزيّة، فإنّ الحجّة سواء كانت عقليّة،كالقطع، أو شرعيّة، كالأمارات، حجّيّتها قطعيّة، وأمّا منجّزيّتها محتملة، فإنّهمنجّزة على تقدير مصادفتها للواقع، ومعذّرة على تقدير مخالفتها له، فكيف
- (1) نهاية الدراية 4: 120.
ج4
يمكن القول بتقدّم الأمارة القائمة على وجوب صلاة الظهر على العلم الإجماليبوجوبها أو وجوب صلاة الجمعة، بدعوى أنّ منجّزيّة الأمارة بالنسبة إلىخصوص وجوب صلاة الظهر قطعيّة ومنجّزيّة العلم الإجمالي بالنسبة إلى كلّمن طرفيه احتماليّة؟!
ولسيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله هاهنا إشكال ثالث، وهو أنّا سلّمنا أنّمتعلّق العلم إنّما هو وجوب مالايخرج عن الطرفين، ولكنّه يستلزم تنجيز مهو المنطبق ـ بالفتح ـ لهذا العنوان أعني نفس التكليف الواقعي، وعلى هذا فلوفرض صحّة الأمارة وتطابقها للواقع يكون مؤدّاها نفس التكليف الواقعي،فلامحالة يقع التنجيز على شيء واحد معيّن واقعي، ويكون التنجيز مستندإلى العلم الإجمالي والأمارة، لا إلى الأمارة فقط، لو لمنقل باستناده إلى العلمالإجمالي فقط، لسبقه وتقدّمه(1).
وعليه فما أفاد من أنّ الأمارة في تنجيزها بلامزاحم غير صحيح(2).
والحاصل: أنّه لا يمكن الالتزام بالانحلال الحكمي، مع حفظ العلم الإجمالي،لا بتقريب المحقّق العراقي ولا بتقريب المحقّق الاصفهاني رحمهماالله .
و للانحلال الحقيقي في المقام توجيهان:
تقريب الانحلال الحقيقي في «نهاية الدراية»
الأوّل: ما ذكره المحقّق الاصفهاني رحمهالله (3) بقوله:
ربما يدّعى انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل قهرا، إذ لم يتنجّز
- (1) فيما إذا كان متقدّما على الأمارة. م ح ـ ى.
- (2) تهذيب الاُصول 3: 120.
- (3) ذكر التقريب لا يلازم اختياره، فلا يستشكل عليه رحمهالله بامتناع الجمع بين ما ذكره هنا وبين ما تقدّم منقوله رحمهالله بالانحلال الحكمي. منه مدّ ظلّه.
(صفحه462)
بالعلم الإجمالي إلاّ عدد خاصّ مثلاً بلاعنوان، والمفروض تنجّز واقعيّاتقامت عليها الأمارات بذلك المقدار، فلو لم ينطبق عليها الواقعيّات المعلومةبالإجمال قهرا، لكان إمّا من جهة زيادة الواقعيّات المعلومة بالإجمال علىالواقعيّات المنجّزة بالأمارات، أو من جهة تعيّن الواقعيّات المعلومة بالإجمالبنحو تأبى عن الانطباق على الواقعيّات المنجّزة بالأمارات، أو تنجّز غيرالواقعيّات بالأمارات، والكلّ خلف وخلاف الواقع(1)، إنتهى موضع الحاجةمن كلامه.
وحاصله: أنّ المعلوم بالإجمال ليس له عنوان خاصّ، بخلاف المعلومبالتفصيل بمقتضى الأمارة، وغير المتعيّن في العنوان الخاصّ ينطبق قهرا علىالمتعيّن فيه، فينحلّ العلم الإجمالي حقيقةً.
وفيه: أنّ الانطباق القهري يتوقف على إحراز اتّحاد المعلوم بالتفصيل بالعلمالوجداني أو بالأمارة مع المعلوم بالإجمال، كما إذا علمنا إجمالاً بخمريّة أحدالإنائين الواقع أحدهما في اليمين والآخر في اليسار، ثمّ علمنا تفصيلاً أنّ إناءاليمين خمر والإناء الآخر ليس بخمر، وهذه الصورة لا إشكال في كون الانحلالفيها حقيقيّا كما تقدّم.
وأمّا محلّ النزاع هو ما إذا احتملنا المغايرة بين المعلوم بالتفصيل والمعلومبالإجمال، كما إذا احتملنا أن يكون الإناء الآخر أيضا خمرا، ولامجال حينئذٍللقول بالإنطباق القهري.
كلام الإمام الخميني رحمهالله في الانحلال الحقيقي
الثاني: ما اختاره سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله بقوله:
- (1) نهاية الدارية 4: 114.
ج4
قد يتوهّم أنّ ميزان الانحلال الحقيقي أن يتعلّق العلم بأنّ ما علم إجمالاً منالتكليف هو هذا المعلوم بالتفصيل، فإذا علم بموطوئيّة غنم بين قطيعة لابدّ فيالانحلال أن يتعلّق العلم بأنّ هذه الغنم هي الغنم التي تعلّق بها العلم الإجمالي.
وبعبارة اُخرى: يحتاج في الانحلال إلى أمرين: أحدهما: العلم التفصيليبمقدار المعلوم بالإجمال. والثاني: العلم بانطباق المعلوم بالإجمال على المعلومبالتفصيل، وعلى هذا قلّما ينحلّ علم إجمالي، خصوصا في الشبهات الحكميّة،بل يمكن دعوى عدم مورد فيها كذلك.
هذا، ولكنّ هذا خلاف التحقيق، لعدم تقوّم الانحلال بالعلم بالانطباق، بلاحتماله كافٍ فيه، وذلك لأنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا للأطراف إذا بقيتالأطراف على طرفيّته، وإنّما تبقى عليها فيما إذا كان الإجمال باقيا في النفس،وإنّما يبقى الإجمال إذا كان كلّ طرف طرفا للاحتمال بنحو القضيّة الحقيقيّة، أومانعة الخلوّ، فيصدق عليه: إمّا هو واجب أو الطرف الآخر، ومع العلمالتفصيلي بوجوب طرف لا يبقى الترديد، ضرورة خروج الطرف المعلومبالتفصيل عن طرفيّة العلم الإجمالي، لمناقضة مفاديهما، فينحلّ العلم الإجمالي،ولا يبقى إجمال في النفس، فيصير أحد الأطراف معلوما بالتفصيل، والبقيّةمحتملة.
وبالجملة: تنحلّ القضيّة الحقيقيّة أو مانعة الخلوّ إلى قضيّة حمليّة بتّيّة، وإلىقضيّة اُخرى كذلك، أو قضيّة مشكوك فيها، من غير بقاء العلم الإجمالي.
إن قلت: لو خرج أحد الطرفين عن طرفية العلم بالسبب الحادث لانحلّتالقضيّة المنفصلة إلى قضيّة بتّيّة ومشكوك فيها مع بقاء أثر العلم الإجمالي بلإشكال، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين في أوّل النهار، ثمّ وقعتنجاسة في أحدهما المعيّن في آخر النهار، فإنّ إحداهما تصير معلومة تفصيلاً،