(صفحه478)
في حسن الاحتياط على كلّ حال
التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط على كلّ حال
لا إشكال في حسن الاحتياط ورجحان رعاية التكليف المحتمل عقلاً،سواء كان التكليف المحتمل تعبّديّاً أو توصّليّاً، وسواء كانت الشبهة وجوبيّة أوتحريميّة، حكميّة أو موضوعيّة.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
وهذا ممّا اتّفق عليه الكلّ إلاّ المحقّق النائيني رحمهالله في بعض الموارد، حيث قال:يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجّة شرعيّة أن يعمل المكلّفأوّلاً بمؤدّى الحجّة ثمّ يعقّبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجّة إحرازللواقع، وليس للمكلّف العمل بما يخالف الحجّة أوّلاً ثمّ العمل بمؤدّى الحجّة، إلإذا لم يستلزم رعاية احتمال مخالفة الحجّة للواقع استيناف جملة العمل وتكراره،كما إذا كان مفاد الحجّة عدم وجوب السورة في الصلاة، فإنّ رعاية احتمالمخالفتها للواقع يحصل بالصلاة مع السورة ولا يتوقّف على تكرار الصلاة، وإنكان يحصل بالتكرار أيضا.
وهذا بخلاف ما إذا كان مفاد الحجّة وجوب خصوص صلاة الجمعة معاحتمال أن يكون الواجب هو خصوص صلاة الظهر، فإنّ رعاية احتمال مخالفةالحجّة للواقع لا يحصل إلاّ بتكرار العمل، وفي هذا القسم لا يحسن الاحتياط
ج4
إلاّ بعد العمل بما يوافق الحجّة، ولا يجوز العكس.
والسرّ في ذلك: هو أنّ معنى اعتبار الطريق: إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملوعدم الاعتناء به، والعمل أوّلاً برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاءاحتمال الخلاف، فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف، وهذا بخلاف ما إذقدّم العمل بمؤدّى الطريق، فإنّه حيث قد ادّى المكلّف ماهو الوظيفة وعمل بميقتضيه الطريق، فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع.
هذا مضافاً إلى أنّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم التمكّن من الطاعةالتفصيليّة ـ كما سيأتي بيانه(1) ـ وبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاةالجمعة يكون المكلّف متمكّناً من الطاعة والامتثال التفصيلي بمؤدّى الطريق،فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي لصلاة الظهر(2)، إنتهى موضع الحاجة منكلامه.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
ويرد على الوجه الأوّل أوّلاً: أنّه مبنيّ على كون الحجّيّة في الأمارات بمعنىإلقاء احتمال الخلاف وتنزيلها منزلة العلم تعبّدا(3)، مع أنّه لا يمكن الالتزام به،فإنّ الحجّيّة، سواء كانت في القطع أو في الأمارات أو في الاُصول، تكون بمعنىالمنجّزيّة والمعذّريّة، غاية الأمر أنّ حجّيّة القطع ذاتيّة و حجّيّة الأماراتوالاُصول مجعولة.
وبالجملة: لم تجعل الأمارات علما تعبّديّاً، بل تجعل كالعلم من حيث
- (1) راجع فوائد الاُصول 4: 269.
- (2) فوائد الاُصول 4: 265.
- (3) فكما أنّه لا يجوز للعالم بوجوب صلاة الجمعة أن يأتي بصلاة الظهر قبلها، كذلك لا يجوز ذلك لمنقامت عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة. منه مدّ ظلّه توضيحاً لكلام المحقّق النائيني رحمهالله .
(صفحه480)
الحجّيّة، أعني المنجّزيّة والمعذّريّة فقط.
وثانياً: لو فرض التعبّد بكون من قامت عنده الأمارة عالماً بمؤدّاهفلا فرق في عدم جواز العمل على خلاف مااقتضته الحجّة بين كونه متقدّمعلى العمل بمؤدّاها وبين كونه متأخّراً عنه، كما لا يجوز للعالم الحقيقي العملعلى خلاف مقتضى علمه مطلقاً، فما اختاره من التفصيل بين ما إذا قدّم العملبمؤدّى الطريق على العمل بما يخالفه وبين العكس باطل جزماً.
وثالثاً: أنّ ما ذكره يستلزم التفصيل بين ما إذا كان العبد بانياً على العملبالاحتياط من أوّل الأمر وبين ما إذا لم يكن بانياً عليه ابتداءً بل بدا له ذلكبعد الإتيان بمؤدّى الأمارة، فيجوز الثاني، دون الأوّل، لأنّه إذا كان حينالاشتغال بصلاة الجمعة ـ التي قامت الأمارة على وجوبها فرضاً ـ بانياً علىالاحتياط بإتيان الظهر أيضاً بعدها، كان هذا البناء خلاف مقتضى الأمارة التيفرض إلقاء احتمال مخالفتها للواقع.
وأمّا الوجه الثاني: فيرد عليه أنّا لانسلّم تقدّم الامتثال التفصيلي علىالإجمالي، فللمكلّف الجمع بين صلاتي الظهر والجمعة، حتّى فيما إذا تمكّن منتحصيل العلم التفصيلي، لأنّ الذي يحكم به العقل هو لزوم الإتيان بالمأمور بهبجميع خصوصيّاته المعتبرة، والمكلّف إذا أتى بكلتا الصلاتين علم بوقوعالمأمور به بجميع خصوصيّاته في الخارج.
إن قلت: تكرار العمل في العبادات يوجب الإخلال ببعض خصوصيّاتها،كقصد القربة المعتبر فيها.
قلت: هذا ـ مضافاً إلى عدم صحّته(1) ـ خلاف الفرض، لأنّ الكلام إنّما هو
- (1) تقدّم في مسألة سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي من مباحث القطع أنّ تكرار العمل في العبادات ليخلّ بقصد القربة. راجع ص147 ـ 157. م ح ـ ى.
ج4
فيما إذا تمكّن المكلّف من الإتيان بالمأمور به بجميع ما هو معتبر فيه في قالبالامتثال الإجمالي الذي نعبّر عنه بالاحتياط.
البحث حول اشتراط حسن الاحتياط بعدم اقتضائه لاختلال النظام
ذهب بعضهم إلى أنّ رجحان الاحتياط مشروط بعدم كونه مقتضيلاختلال النظام.
أقول: لا ريب في أنّ الإخلال بالنظام مبغوض للشارع المقدّس، ولأجلذلك شرّع التسهيلات الكثيرة في الأبواب المختلفة، كبابي الطهارة والنجاسة،والحلّيّة والحرمة، وغيرهما.
لكنّه لا يوجب تقييد حسن الاحتياط، لتغاير متعلّقيهما، فإنّ الحسن تعلقبـ «الاحتياط» والمبغوضيّة بـ «اختلال النظام» واجتماع هذين العنوانين وجودلا يوجب أن يصير الاحتياط مبغوضاً أو اختلال النظام راجحا، فإنّ الاتّحادبحسب الوجود لا يوجب التلاقي في مقام تعلّق الحكم، كما عرفت تفصيله فيمبحث اجتماع الأمر والنهي(1).
والحاصل: أنّ «الاحتياط» بما هو احتياط يكون راجحاً على كلّ حالبلاقيد وشرط.
- (1) راجع ص82 من الجزء الثالث.
(صفحه482)
في توقّف جريان أصالة البرائة على عدم أصل حاكم
التنبيهالثالث: فيتوقّفجريانأصالة البرائة على عدم أصل حاكم
لا تجري أصالة البرائة العقليّة ولا النقليّة فيما إذا كان هناك أصل حاكمموضوعي أو حكمي.
أمّا العقليّة: فلأنّ موضوعها هوالعقاب بلابيان، فلوكان هناك حجّة وبيانعلى ثبوت الحكم أو عدمه لماجرت أصالة البرائة، لزوال موضوعه.
ولا فرق في ذلك بين كون البيان علماً تفصيليّاً أو إجماليّاً، أو أمارة معتبرة،أو أصلاً شرعيّاً.
وأمّا النقليّة: فلأنّ المراد من «ما لا يعلمون» في «حديث الرفع» هو عدمقيام الحجّة، لاخصوص العلم الوجداني، فلوقامت الحجّة على حكم ـ و لوكان أصلاً عمليّاً، كالاستصحاب الذي دلّ على اعتباره قوله عليهالسلام : «لا تنقضاليقين بالشكّ» ـ لزال موضوع «حديث الرفع».
ولا فرق في ذلك بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة، فلو شكّ في خمريّةمايع كان خمراً سابقاً لماجرت فيه أصالة البرائة، لوجود أصل حاكم عليها،وهو استصحاب الخمريّة.
ثمّ إنّ هاهنا إشكالاً، وهو أنّ الموارد التي لم يكن فيها أصل حاكم قليلةجدّاً، بل لا يبعد دعوى عدم وجودها رأساً، إذ ليس لنا مورد شكّ فيه بحسبالحكم أو الموضوع إلاّ أنّه مسبوق بالوجود أو العدم، فالاستصحابات