آخر ـ وإن كان تامّاً في الجملة، إلاّ أنّ الوجدان حاكم بأنّ القطع ـ سواءصادف الواقع أو خالفه ـ ملحوظ آلةً لا استقلالاً.
ويشهد عليه أنّك لو قلت لمن يشرب المائع الذي قطع بخمريّته: «ماذتشرب؟» لقال: «أشرب الخمر» ولم يقل: «أشرب معلوم الخمريّة».
لكن يمكن المناقشة في كلام المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّ العناوين المغفول عنهعلى قسمين: أحدهما: ما لو التفت المكلّف إليه لخرج نفسه عن تحته، كعنوان«المتجرّي» و«الناسي» ثانيهما: مالا يكون كذلك، كعنوان «معلوم الخمريّة»فإنّ من قطع بخمريّة مائع وإن لم يلتفت إلى علمه إلاّ بلحاظ آلي، إلاّ أنّه لوالتفت إليه استقلالاً لما خرج عن تحت الخطاب، ضرورة أنّا لو قلنا لمن يشربالمائع الذي قطع بخمريّته: «ماذا تشرب؟» لقال: «أشرب الخمر» ولو سألناهثانياً بقولنا: «هل أنت عالم بأنّ هذا المائع خمر؟» لأجاب بأنّه «نعم، أنا عالمبأنّ هذا المائع خمر» فعلمه بالخمريّة وإن كان عند الجواب عن السؤال الأوّلآلة ومرآةً للعنوان الأوّلي، أعني «الخمر» إلاّ أنّه ملحوظ استقلالاً عند الجوابعن السؤال الثاني، ومع ذلك يعمّه خطاب «لا تشرب معلوم الخمريّة» فيالحالة الثانية كما يعمّه في الحالة الاُولى.
الثاني: أن يؤخذ العلم في الموضوع، كأن يقال: «لا تشرب معلوم الخمريّة»مع بقاء الخطاب المتعلّق بالعنوان الأوّلي ـ وهو «لا تشرب الخمر» ـ أيضاً علىقوّته.
وفيه ثلاثة احتمالات:
أ ـ أن يكون العلم المأخوذ في الموضوع خصوص ما صادف الواقع.
ب ـ أن يكون خصوص ما خالفه.
ج ـ أن يعمّ الصورتين.
أمّا الأوّل: فلا يجدي المستدلّ، لعدم شموله للتجرّي.
وأمّا الثاني: فلا يلتفت إليه المخاطب أصلاً، لأنّ المتجرّي حال كونه متجرّيلا يرى علمه مخالفاً للواقع، بل لا يحتمل ذلك أصلاً.
فلابدّ من إرادة الاحتمال الثالث(1)، وهو وإن لم يكن مستحيلاً ـ كما عرفتعند البحث حول كلام العلمين المحقّقين الخراساني والنائيني رحمهماالله ـ إلاّ أنّهيستلزم ما لم يلتزم به أحد، بل لا يمكن الالتزام به، وهو صيرورة المعصيةالواقعيّة الواحدة(2) معصيتين واستحقاق من ارتكبها عقوبتين، لمخالفته خطابينمستقلّين: أحدهما: «لا تشرب الخمر» مثلاً، والآخر: «لا تشرب معلومالخمريّة».
إن قلت: لعلّ الخطابين يتداخلان في المقام.
قلت: التداخل يحتاج إلى الدليل، ولا دليل عليه هاهنا بعد أن كان لنحكمان تعلّق كلّ منهما بعنوان غير ما تعلّق به الآخر وكان بينهما عموموخصوص من وجه، فإنّ المكلّف لو خالف كلا الحكمين بارتكاب مجمع
- (1) كما صرّح به المحقق النائيني رحمهالله في فوائد الاُصول 3: 45.
- (2) كما إذا شرب ما قطع بخمريّته وصادف قطعه الواقع. منه مدّ ظلّه.
(صفحه58)
العنوانين لاستحقّ عقوبتين، بسبب ارتكاب معصيتين، وما سمعنا بهذا فيآبائنا الأوّلين.
الثالث: أن تتعلّق الحرمة بعنوان «معلوم الحرمة» مع بقاء الخطاب المتعلّقبالعنوان الأوّلي أيضاً على قوّته، فللمولى خطابان: أ ـ «لا تشرب الخمر»مثلاً، ب ـ «كلّ معلوم الحرمة حرام».
وفيه: أنّه مستحيل، لاستلزامه التسلسل، لأنّ الخطاب الثاني يكون منالقضايا الحقيقيّة التي تعمّ نفسها، فإذا علمت بكون مائع خمراً علمت بحرمتهبمقتضى قوله: «لا تشرب الخمر» فيصدق عليه عنوان «معلوم الحرمة» فيصيرمحرّماً بحرمة ثانية بمقتضى الدليل الثاني، فيصدق عليه عنوان «معلوم الحرمة»مرةً ثانية ويصير حراماً بحرمة ثالثة، وهكذا يتسلسل إلىمالا نهاية له.
والحاصل: أنّه لا طريق إلى إثبات حرمة التجرّي شرعاً.
3ـ استحقاق العقوبة على التجرّي
اختلفوا في أنّ المتجرّي هل يستحقّ العقاب أم لا؟
فذهب بعضهم ـ كالمحقّق الخراساني في «كفايته» وتلميذه المحقّق الاصفهانيفي «نهايته» ـ إلى الأوّل.
وذهب بعض آخر ـ كالشيخ الأعظم الأنصاري في «فرائده» والمحقّقالنائيني في «فوائده» ـ إلى الثاني.
ولا يخفى عليك أنّ التجرّي لو كان حراماً شرعاً لترتّب عليه استحقاقالعقوبة قطعاً، لكنّا ـ بعد ما أثبتنا عدم إمكان تحريمه ثبوتاً، وعدم قيام دليلعليه إثباتاً ـ نضطرّ إلى ملاحظة ما قيل في المقام.
كلام المحقّقين: الخراساني والاصفهاني في المسألة
ج4
قال في الكفاية: قد عرفت أنّه لا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاقالعقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة، فهل يوجباستحقاقها في صورة عدم الإصابة على التجرّي بمخالفته واستحقاق المثوبةعلى الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئاً؟ الحقّ أنّه يوجبه، لأنّ الوجدان كميحكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان باستحقاق النيران أوالجنان، كذلك يشهد بصحّة مؤاخذة العبد وذمّه على تجرّيه وهتك حرمتهلمولاه وخروجه عن رسوم عبوديّته وكونه بصدد الطغيان وعزمه علىالعصيان، وصحّة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو قضيّة عبوديّته من العزمعلى موافقته والبناء على إطاعته(1)، إنتهى كلامه ملخّصاً.
وقال في نهاية الدراية، توضيحاً لما ذكره المحقّق الخراساني في الكفاية:لاينبغي الشبهة في حكم العقل باستحقاق العقاب على التجرّي، لاتّحاد الملاكفيه مع المعصية الواقعيّة، بيانه: أنّ العقاب على المعصية الواقعيّة ليس لأجلذات المخالفة مع الأمر والنهي، ولا لأجل تفويت غرض المولى بما هو مخالفةوتفويت، ولا لكونه ارتكاباً لمبغوض المولى بما هو، لوجود الكلّ في صورةالجهل، بل لكونه هتكاً لحرمة المولى وجرأةً عليه، إذ مقتضى رسوم العبوديّةإعظام المولى وعدم الخروج معه عن زيّ الرقّيّة، فالإقدام على ما أحرز أنّهمبغوض المولى خلاف مقتضى العبوديّة ومنافٍ لزيّ الرقّيّة، وهو هتكلحرمته، وظلم عليه، وهذا الحكم العقلي من الأحكام العقليّة الداخلة فيالقضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس،وأمثال هذه القضايا ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظالنظام وبقاء النوع بها(2)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.