ج4
فالتحقيق يقتضي أن يقال: إنّ للإنسان أفعالاً جوارحيّة، كالأكل والشربوالقيام والقعود ونحوها، وأفعالاً نفسانيّة، وهي ـ كما قال صدر المتألّهين رحمهالله صفات حقيقيّة قائمة بنفس الإنسان، كالإرادة ومباديها.
والوجدان حاكم بأنّ الأعمال الجوارحيّة بعضها اختياريّة، وبعضهاضطراريّة، والفارق بينهما هو المسبوقيّة بالإرادة وعدمها، فإنّ اليد السليمةتتحرّك بإرادة صاحبها، بخلاف اليد المرتعشة.
وأمّا الإرادة ومباديها فالوجدان حاكم بأنّ جميعها اُمور اختياريّة ـ خلافلما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من التفصيل المتقدّم ـ ضرورة أنّ صديقك لوأعطاك ورقة حاوية على موضوعات فقهيّة مثلاً فأنت مختار في قراءة تلكالورقة وتصوّر ما فيها من الموضوعات وعدمها.
وكذلك الأمر في التصديق بالفائدة، ألا ترى أنّ الناس بعد بعثة النبي صلىاللهعليهوآله كانوا مختلفين، بعضهم كانوا يقطعون مسافةً بعيدة لرؤيته صلىاللهعليهوآله واستماع كلامهوالتصديق بما يشتمل عليه من التبشير والإنذار، وبعضهم ـ مع كونهم فيجواره صلىاللهعليهوآله ـ كانوا يجعلون القطن في آذانهم لئلاّ يسمعوا كلامه صلىاللهعليهوآله ؟ وهذأوضح شاهد على كون التصديق بالفائدة أمراً اختياريّاً.
وهكذا الأمر في نفس الإرادة التي يتحقّق عقيبها المراد، ولذا نقول: «أنأردت أن أفعل كذا» ولو قال أحد: نحن مجبورون في إرادة أفعالنا لضحك بهالثكلى.
فالإرادة وجميع مباديها اُمور اختياريّة بشهادة الوجدان.
لكنّ المناط في اختياريّتها ليس مسبوقيّتها بالإرادة ليلزم التسلسل(1)، بل
- (1) حيث إنّ التصوّر الذي هو من مبادئ الإرادة لو كان مسبوقاً بإرادة اُخرى لاحتاج إلى تصوّر آخر، وهكذإلى مالا نهاية له، وكذلك الأمر في نفس الإرادة وسائر مباديها. م ح ـ ى.
(صفحه72)
المناط فيها أنّ اللّه تبارك وتعالى بمقتضى قوله: «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»(1)وهب لنفس الإنسان شعبة من الخلاّقيّة، فصارت قادرة على خلق الإرادةومباديها.
وأمّا قاعدة «كلّ فعل اختياري لابدّ وأن يكون مسبوقاً بالإرادة» فهيمختصّة بالأفعال الجوارحيّة التي هي ظاهرة ملموسة، ولا تعمّ الصفاتالنفسانيّة التي منها الإرادة ومباديها(2).
ويؤيّده ما في الكفاية من أنّ العناوين المشتقّة الجارية على اللّه تعالى وعلىغيره ـ كالعالم والعادل ـ جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد(3)، وإن اختلففيما يعتبر في الجري من الاتّحاد وكيفيّة التلبّس بالمبدأ، حيث إنّه بنحو العينيّةفيه تعالى، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره(4)، إنتهى كلامه، وهو حقّ متين.
فالإرادة لو كانت صفة مسبوقة بإرادة اُخرى لم يصحّ إطلاقها على اللّهتعالى من وجهين:
أ ـ أنّ الإرادة بهذا المعنى لا تلائم عينيّتها مع الذات.
ب ـ أنّ السبق واللحوق حاكٍ عن قابليّة لحوق اللاحق في مرتبة السابق،فللإرادة بهذا المعنى بُعد فعلي وبُعد استعدادي، وإطلاقها عليه سبحانه يستلزمتركّبه من هاتين الجهتين، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.
إن قلت: لعلّ مفهومها لم يتضمّن للمسبوقيّة بإرادة اُخرى حينما تطلق عليهتعالى، بل اشتمالها عليها تختصّ بما إذا تطلق على الإنسان.
- (2) كما أنّ قاعدة «كلّ موجود يحتاج إلى علّة موجدة» تختصّ بالموجودات الممكنة المأنوسة لنا، ولا تعمّواجب الوجود. منه مدّ ظلّه.
- (3) فـ «العالم» مثلاً بماله من المعنى، وهو «من ينكشف عنده الشيء» يطلق على اللّه تعالى وعلينا.منه مدّ ظلّه.
ج4
قلت: هذا مغاير لما تقدّم من كون الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيرهجارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد.
والحاصل: أنّ الإرادة ومباديها اُمور اختياريّة من دون أن تكون مسبوقةبإرادة اُخرى، فإنّ اختياريّتها عبارة عن قدرة النفس على إيجادها بعناية اللّهتعالى، لا عن مسبوقيّتها بالإرادة.
البحث حول «الذاتي لا يعلّل»
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله وقع في ورطة هائلة اُخرى، وهي أنّ السعادةوالشقاوة، وبعبارة اُخرى: الكفر والإيمان والإطاعة والعصيان من ذاتيّاتالإنسان، والذاتيّات ضروريّة الثبوت للذات، فلا يصحّ السؤال عنها بـ «لِمَ»كأن يقال: «لِمَ جعل السعيد سعيداً والشقيّ شقيّاً» أو «لِمَ اختار الكافر والعاصيالكفر والعصيان والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان» فإنّه يساوق السؤال عنأنّ «الحمار لم يكون ناهقاً والإنسان لم يكون ناطقاً».
وبالجملة: تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه جلّ شأنه وعظمت كبريائهوالبعد عنه سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها والنار ودركاتها،وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدمها، وتفاوتها في ذلك بالأخرة يكونذاتيّاً، والذاتي لا يعلّل(1).
نقد ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله
ولابدّ من بيان المراد من الذاتي ووجه عدم كونه معلّلاً وبيان معنى السعادةوالشقاوة كي يتّضح المناقشة في كلام صاحب الكفاية رحمهالله ، فنقول: إنّ المنطقيّين
- (1) كفاية الاُصول: 89 و300.
(صفحه74)
يتكلّمون حول الذاتي في موضعين:
أ ـ باب الكلّيّات الخمس، ويعبّر عنه بالذاتي في باب «إيساغوجي» وهوثلاثة: النوع، والجنس، والفصل.
ب ـ باب البرهان، ويعبّر عنه بالذاتي في باب البرهان، وهو أعمّ من الأوّل،لأنّه ـ مضافاً إلى شموله للنوع والجنس والفصل ـ يعمّ لوازم الماهيّة أيضاً،كزوجيّة الأربعة، بل يعمّ مثل الوجود لواجب الوجود، والامتناع لشريكالباري.
واُريد من «الذاتي» في المقام هذا المعنى الثاني العامّ، ووجه عدم كونه معلّلأنّ ذاتي الشيء ضروري الثبوت له، فلا يتصوّر لثبوته علّة كي يعقل السؤالعنها.
توضيح ذلك: أنّ كلّ محمول إذا قيس إلى موضوعه فلا يخلو إمّا أن يكونوجوده ضروريّاً له، أو عدمه، أو لا يكون شيء منهما ضروريّاً، بل يكوننسبة الموضوع إلى وجود هذا المحمول وعدمه على السواء(1).
ولا يعقل السؤال عن العلّة في القسمين الأوّلين، بأن يقال: «لم جعلالإنسان إنساناً» أو «لم لا يكون الإنسان فرساً» إذ ليست الإنسانيّة مجعولةللإنسان بالجعل التأليفي، ولا الفرسيّة مسلوبة عنه بالسلب التأليفي كي يمكنالسؤال عن علّة ذلك الجعل وهذا السلب.
نعم، يمكن السؤال عن علّة جعل الإنسان ووجوده بنحو مفاد «كان التامّة»لتساوي نسبته إلى الوجود والعدم، فإنّ «اللّه تعالى ما جعل المشمش مشمشاً،بل أوجده» فيصحّ السؤال عن علّة وجود المشمش، لا عن علّة جعل
- (1) فالقضيّة الصادقة من بين الموجّهات في الأوّل: موجبة ضروريّة، نحو «الإنسان حيوان بالضرورة» وفيالثاني: سالبة ضروريّة، نحو «شريك الباري ليس بموجود بالضرورة» وفي الثالث: ممكنة عامّة، نحو«الإنسان موجود بالإمكان». م ح ـ ى.
ج4
المشمشيّة له.
ولا فرق فيما تقدّم بين النوع والجنس والفصل وبين لازم الماهيّة وسائر ميسمّى بالذاتي في باب البرهان، فإنّ جميعها ضروري الثبوت، فلا يصحّالسؤال عن علّتها. فاتّضح لك أنّ قاعدة «الذاتي لا يعلّل» قاعدة فلسفيّة لهبرهان قاطع.
البحث حول ذاتيّة السعادة والشقاوة
إنّ السعادة عبارة عن نيل الإنسان إلى جميع آماله، والشقاوة عبارة عنحرمانه عنها.
ولا فرق في ذلك بين العرف والشرع، وإن كان الآمال تختلف بحسباختلاف الآراء والأنظار، فبعض ما هو مطلوب في الشرع لا يكون مطلوبعند العقلاء وبالعكس، بل بعض ما هو مرغوب إليه عند شخص لا يكونكذلك عند شخص آخر، فبعض الناس يطلب العلم والاجتهاد، وبعض آخريحبّ الحكومة والرئاسة، وبعض ثالث يرغب إلى المال والثروة، وهكذا، ولكنهذا الاختلاف يرتبط بالأغراض والآمال، ولا دخل له بمعنى السعادةوالشقاوة كما لا يخفى.
السعادة والشقاوة في قاموس الشرع
لا يخفى أنّ من أنكر الحياة الاُخرويّة لا يهتمّ إلاّ بالاُمور الدنيويّة التي هيالغاية القصوى في نظره، وأمّا الشارع فلا يرى الدنيا إلاّ مزرعة الآخرة،وغرضه الحقيقي هو نيل الإنسان إلى الحياة الأبديّة الخالدة، ولأجل ذلك جعلالسعادة في الوصول إلى الجنّة والشقاوة في دخول النار، حيث قال: «فَمِنْهُمْشَقِىٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ