على كلّ حال ومع وصف تردّد متعلّقه بين شيئين أو أشياء، ألا ترى أنّ المولىإذا قال لعبده: «أكرم زيداً» وكان زيد مردّداً بين شخصين عاقبه المولى لو تركإكرام كليهما، بل وكذلك إذا أكرم أحدهما وكان الآخر زيداً في الواقع، ولم يقبلعذره بأنّ موضوع التكليف كان مردّداً بين شخصين.
فعلى هذا لا تكاد تجري الاُصول العمليّة في بعض أطراف العلم الإجمالي،فضلاً عن جميعها، لعدم جواز ترخيص الشارع في مخالفة التكليف الفعليالمعلوم بالإجمال.
لايقال: إنّ المقام نظير مسألة اجتماع الأمر والنهي، لأنّ الشارع حكم بحرمةالخمر مثلاً بمقتضى الأدلّة الأوّليّة وحكم بحلّيّة مشكوك الخمريّة بمقتضىالاُصول العمليّة، والنسبة بين متعلّقي الحكمين ـ وهما عنوانا «الخمر»و«مشكوك الخمريّة» ـ هي العموم من وجه، لتصادقهما على الخمر المشكوكخمريّتها، وتفارقهما في الخمر المعلومة والماء الذي شكّ في كونه ماءً أو خمراً.
فكما أنّ التحقيق كان يقتضي جواز اجتماع الأمر والنهي الفعليّين في الصلاةفي الدار المغصوبة بدعوى أنّ الأمر تعلّق بعنوان والنهي بعنوان آخر وكان بينالعنوانين عموم من وجه وقد تصادقا على الصلاة في الدار المغصوبة، فكذلكالأمر في المقام طابق النعل بالنعل، فيمكن تجويز ارتكاب كلا الإنائين الذينعلم خمريّة أحدهما، فضلاً عن تجويز ارتكاب أحدهما، واجتماع الحرمةوالحلّيّة في الخمر المعلومة بالإجمال نظير اجتماع الوجوب والحرمة في الصلاةفي الدار المغصوبة.
فإنّه يقال: بين المسألتين بون بعيد، فإنّ الأمر والنهي في مسألة الاجتماعتعلّقا بعنوانين مستقلّين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا يكون حكم أحدهمناظراً إلى حكم الآخر أصلاً، فإنّ الصلاة واجبة، سواء حرّم الغصب أو لم
يحرّم، والغصب حرام، سواء وجبت الصلاة أو لم تجب، بل لو كان المولى منالموالي العرفيّة لم يلتفت إلى الغصب حين الأمر بالصلاة ولا إلى الصلاة حينالنهي عن الغصب، إلاّ أنّهما تصادقا على عمل واحد في الخارج الذي هو ظرفالإطاعة والعصيان وسقوط التكليف لا ظرف تعلّق الحكم وثبوته.
بخلاف المقام، فإنّ الحكم بحلّيّة مشكوك الخمريّة ناظر إلى الحكم بحرمةالخمر، فهو في مقام رفع هذا الحكم عن بعض مصاديق الخمر، وهو ما شكّالمكلّف في خمريّته، ولا يمكن الجمع بينه وبين العلم بحرمته الفعليّة.
إن قلت: لا ريب في أنّ الحكم بحرمة الخمر كما يعمّ الخمر المعلومةبالتفصيل وبالإجمال كذلك يعمّ الخمر المشكوكة بالشكّ البدوي، ولا ريبأيضاً في أنّ الاُصول العمليّة تجري في الشبهات البدويّة، فما الفرق بينها وبينالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، حيث يرفع اليد عن الحكم بحرمة الخمربمثل قاعدة الحلّيّة في الاُولى دون الثانية؟!
قلت: الفرق بينهما أنّ الحكم الفعلي معلوم في موارد العلم الإجمالي، فلايمكنجعل حكم مخالف له، بخلاف موارد الشبهة البدويّة، فإنّ الحكم الفعليمشكوك فيها، والشارع يرفعه على فرض وجوده، وسيجيء مزيد بيان له فيمبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إن شاء اللّه تعالى.
وبالجملة: كلّ واحد من الحكمين مستقلّ عن الآخر في مسألة الاجتماع،بخلاف الاُصول العمليّة التي تكون ناظرة إلى أدلّة الأحكام الواقعيّة.
على أنّ الحكمين في مسألة الاجتماع كلاهما حكمان واقعيّان في عرضواحد، من دون أن يكون أحدهما متقدّماً على الآخر، بخلاف ما نحن فيه، فإنّالحرمة المتعلّقة بأحد الإنائين الذين علم إجمالاً خمريّة أحدهما حرمة واقعيّة،ولكن حلّيّة مشكوك الخمريّة المستفادة من قاعدة الحلّيّة حكم ظاهري،
(صفحه142)
وكذلك الوجوب الذي علم إجمالاً تعلّقه بصلاة الظهر أو الجمعة حكم واقعي،ولكن عدم وجوب مشكوك الوجوب المستفاد من أصالة البراءة حكمظاهري، ولا ريب في تأخّر رتبة الأحكام الظاهريّة عن رتبة الأحكامالواقعيّة، فإذا كان العلم الإجمالي كالتفصيلي طريقاً إلى إثبات الحكم الواقعيوتنجّزه فلا مجال لجريان الاُصول العمليّة في موارده.
والحاصل: أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة ووجوبالموافقة القطعيّة، فلا تجري الاُصول العمليّة في أطرافه لا في جميع الأطراف ولفي بعضها.
هذا تمام الكلام في المقام الأوّل، أعني ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي.
المقام الثاني: في سقوطه بالامتثال العلمي الإجمالي
ولابدّ قبل الخوض فيه من تحرير محلّ النزاع، فنقول:
لا إشكال ولا كلام في كفاية الاحتياط في التوصّليّات، سواء استلزمالتكرار أم لا، وسواء تمكّن من الامتثال التفصيلي أم لا، فلو كان عنده ماءانعلم إجمالاً أنّ أحدهما مطلق والآخر مضاف فلو غسل يده المتنجّسة بكلّمنهما لصارت طاهرة، فإنّ الماء المطلق المعلوم بالإجمال يؤثّر أثره ويقطعالغاسل بطهارة يده بعد غسلها بكلا المائين، وكذلك لو علم أنّ عليه ألف دينارإمّا لزيد أو لعمرو، فلو أعطى كلاًّ منهما هذا المقدار لصار بريء الذمّة بلإشكال.
ولا إشكال أيضاً في كفاية الاحتياط في باب المعاملات، لوضوح الجوابعن شبهة اعتبار الجزم فيها.