ج4
حاصل فيما نحن فيه.
فالأولى أن يقرّر هكذا: إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجبالاستحالة، وهذا(1) طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان(2)، إنتهى كلامه.
كلام المحقّق صاحب الكفاية رحمهالله في المقام
وناقش فيه المحقّق الخراساني رحمهالله بثلاثة اُمور:
أ ـ منع استقرار سيرة العقلاء على الحكم بإمكان الشيء عند احتمالامتناعه.
ب ـ منع اعتبار هذه السيرة؛ لعدم قيام دليل قطعي عليه، والتمسّك بالظنّلإثبات اعتبارها يستلزم الدور؛ لأنّ الكلام الآن في إمكان وامتناع التعبّدبالمظنّة التي من مصاديقها هذا الظنّ.
ج ـ أنّه لا يترتّب على النزاع في إمكان التعبّد بالظنّ واستحالته ثمرة عمليّةما لم يثبت وقوعه، وإذا ثبت وقوعه فلم نحتج لإثبات إمكانه إلى أمر آخر،لأنّ أدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه.
وأمّا الإمكان في كلام الشيخ الرئيس: «كلّما قرع سمعك من الغرائبفذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك(3) عنه واضح البرهان» فلا يرتبطبالمقام، لأنّا نبحث في أنّ التعبّد بالظنّ هل يتّصف واقعاً بالإمكانالوقوعي، فلا يترتّب عليه تالٍ باطل، أو بالاستحالة الوقوعيّة، فيترتّبعليه ذلك.
- (1) هذه الجملة جواب عن سؤال مقدّر، كأنّ قائلاً يقول: عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، فأجابعنه: بأنّ العقلاء لا يلتزمون لإثبات إمكان الشيء بلزوم قيام دليل قطعي عليه، بل يحكمون به بمجرّد عدموجدان برهان على امتناعه. منه مدّ ظلّه.
- (2) فرائد الاُصول 1: 106.
- (3) ذاده: دفعه وطرده. م ح ـ ى.
(صفحه156)
بخلاف «الإمكان» في كلام الشيخ الرئيس، فإنّه بمعنى الاحتمال الذي يكونمن الأوصاف القائمة بالنفس، يعني: «كلّما قرع سمعك من الاُمور العجيبةالغريبة فلا تكذّبه، بل احتمل في نفسك صدقه وكذبه، إلاّ أن يقوم عندكبرهان قاطع على دفعه ومنعه، فلك أن تكذّبه حينئذٍ»(1).
هذا حاصل ما اعترض به المحقّق الخراساني رحمهالله على ما استدلّ به الشيخالأعظم لإثبات إمكان التعبّد بالظنّ.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
واعترض عليه المحقّق النائيني رحمهالله بإشكال آخر، وهو أنّ مورد بناءالعقلاء هو الإمكان التكويني، والمراد من الإمكان المبحوث عنه في المقامهو الإمكان التشريعي، يعني أنّ من التعبّد بالأمارات هل يلزم محذور فيعالم التشريع: من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة واستلزامه الحكمبلا ملاك واجتماع الحكمين المتنافيين، وغير ذلك من التوالي الفاسدةالمتوهّمة في المقام، أو أنّه لا يلزم شيء من ذلك؟ وليس المراد من الإمكانهو الإمكان التكويني بحيث يلزم من التعبّد بالظنّ أو الأصل محذور في عالمالتكوين، فإنّ الإمكان التكويني لا يتوهّم البحث عنه في المقام،وذلك واضح(2).
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله
وفيه: أنّ البحث وإن كان في الإمكان التشريعي، إلاّ أنّه ليس نوعاً ثالثاً من
- (2) فوائد الاُصول 3: 88 .
ج4
الإمكان في مقابل الإمكان الذاتي والوقوعي، بل هو قسم من الإمكانالوقوعي الذي قد عرفت أنّه المبحوث عنه، كما أنّ الإمكان التكويني(1) أيضقسم آخر منه.
وكيف كان، فالمهمّ في المقام ما قاله المحقّق الخراساني رحمهالله من عدم ترتّبفائدة عمليّه على إثبات إمكان التعبّد بالمظنّة.
فينبغي التعرّض لما استدلّ به ابن قبة ومن تبعه لإثبات امتناعه، فلو كانتامّاً فلا تصل النوبة إلى البحث في مقام الإثبات، وأمّا إذا كان مخدوشاً فكنّنشكّ في بداية الأمر في إمكان التعبّد بالظنّ وامتناعه، فإن تفحّصنا الأدلّة فيمقام الإثبات ووجدنا دليلاً قطعيّاً على اعتبار بعض الظنون كان كاشفـ بالالتزام ـ عن إمكان التعبّد بالظنّ، لأنّ أدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه،كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله .
البحث حول ما استدلّ به لإثبات امتناع التعبّد بالظنّ
استدلّ ابن قبة ومن تبعه على الامتناع بوجوه(2):
الأوّل: أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ صلىاللهعليهوآله لجاز التعبّدبه في الإخبار عن اللّه سبحانه أيضاً، والتالي باطل إجماعاً، فالمقدّم مثله(3).
- (1) وتقابله الاستحالة التكوينيّة، كما أنّ الاستحالة التشريعيّة تقابل الإمكان التشريعي، والفرق بينهما أنّالمحال تكويناً أخصّ من المحال تشريعاً، فإنّ المحال في عالم التشريع كما يعمّ اجتماع النقيضينوالضدّين والمثلين والدور والتسلسل ونحو ذلك من المحالات التكوينيّة، يعمّ أيضاً كلّ عملٍ قبيح؛كالظلم وتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، فإنّها وإن لم يمتنع صدورها من الموالي العاديّة، إلاّ أنّهيمتنع أن تصدر من الحكيم على الإطلاق. منه مدّ ظلّه.
- (2) لا يأتي أكثر من وجهين لإثبات استحالة التعبّد بالمظنّة، لكنّ الوجه الثاني يشتمل على وجوه ثلاثة، كمستعرف. م ح ـ ى.
- (3) هذا الدليل وإن كان ـ على فرض تماميّته ـ مختصّاً بالتعبّد بخصوص خبر الواحد، ولا يعمّ مطلق الظنّ، إلأنّه ينبغي البحث عنه، لكون الخبر الواحد أهمّ ظنّ يستدلّ به في الفقه. منه مدّ ظلّه.
(صفحه158)
ويمكن المناقشة فيه أوّلاً: بمنع الملازمة، فإنّ الإخبار عن النبيّ صلىاللهعليهوآله يكون إخباراً عن حسّ حتّى فيما إذا تعدّدت الوسائط، فإنّ كلّ واسطةيروي ما تحمّله حسّاً عمّن فوقه إلى أن ينتهي إليه صلىاللهعليهوآله ، وأمّا الإخبار عن اللّهسبحانه فبأيّ نحوٍ يمكن أن يتحقّق بعد أن انقطع ما كان مختصّاً بالأنبياء عليهمالسلام من وساطة جبرئيل التي يعبّر عنها بـ «الوحي» والاستماع من الشجرةونحوها؟!
وبالجملة: قياس الإخبار عن اللّه تعالى بالإخبار عن الرسول صلىاللهعليهوآله معالفارق.
وثانياً: سلّمنا الملازمة، لكن بطلان التالي في قول ابن قبة: «والتالي باطلإجماعاً» إن كان بمعنى عدم إمكان التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن اللّه تعالىفهو من المسائل العقليّة التي لا يمكن إثباتها إلاّ بحكم العقل، فكيف تمسّك فيهبالإجماع الذي لا يمكن أن يكون مرجعاً في مثل هذه المسائل؟!
وإن كان بمعنى عدم وقوع التعبّد به في مقام الإثبات، فهو مغاير لمدّعاه،وهو استحالة وقوع التعبّد بخبر الواحد.
وثالثاً: أنّ الإجماع الذي استدلّ به على بطلان التالي وإن كان إجماعمحصّلاً بالنسبة إلى ابن قبة، إلاّ أنّه منقول بالنسبة إلينا، والإجماع المنقول لوكان حجّة فإنّما هو لأجل كونه من مصاديق خبر الواحد، وهل يصحّ التمسّكبالخبر الواحد لإثبات امتناع التعبّد به؟!
الثاني: أنّ في التعبّد بالمظنّة(1) عدّة توالٍ فاسدة: بعضها يترتّب على أصلالخطابات، وبعضها الآخر على أمر متأخّر لازم لها، وبعض ثالث يرتبط بم
- (1) هذا الدليل لو تمّ لعمّ جميع الظنون وإن ذكره ابن قبة في مقام إثبات امتناع التعبّد بخبر الواحد، كالدليلالأوّل. منه مدّ ظلّه.
ج4
هو متقدّم عليها، وهو أيضاً على نوعين: لأنّ بعضها يترتّب على ملاكاتالأحكام(1)، وبعضها الآخر على مباديها(2).
التعبّد بالأمارات هل يوجب اجتماع المثلين أو الضدّين؟
أمّا المحذور الأوّل ـ أعني ما يرتبط بأصل الخطاب ـ فهو أنّ جعل الحجّيّةلخبر الواحد(3) يستلزم اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلاً فيما أصاب،واجتماع الضدّين من إيجاب وتحريم فيما أخطأ.
وفيه أوّلاً: أنّك عرفت في مبحث اجتماع الأمر والنهي أنّ التضادّوالتماثل يرتبطان بالواقعيّات، فلا يجريان في الأحكام التي هي من الاُمورالاعتباريّة.
وثانياً: أنّ جعل الحجّيّة لخبر العادل مثلاً لا يستلزم جعل حكم على طبقه،ليلزم منه اجتماع المثلين أو الضدّين، بل الحجّيّة تكون بمعنى المنجّزيّةوالمعذّريّة، فذلك الحكم الواقعي يتنجّز على المكلّف فيما أصاب الحجّة، وهومعذور في مخالفته فيما أخطأت.
التعبّد بالأمارات هل يستلزم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة؟
وأمّا المحذور الثاني ـ أعني ما يرتبط بلازم الخطاب ـ فهو أنّ خبر الواحدلو كان حجّة لا نجرّ إلى تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما أدّى إلىعدم وجوب ما هو واجب أو عدم حرمة ما هو حرام وكونه محكوماً بسائرالأحكام، وإلى ذلك ينظر الاستدلال المحكيّ عن ابن قبة، من أنّه يوجب
- (1) كاجتماع المصلحة والمفسدة. منه مدّ ظلّه.
- (2) كاجتماع الإرادة والكراهة. منه مدّ ظلّه.
- (3) ذكر الخبر الواحد من باب المثال، إذ قد عرفت شمول البحث لجميع الأمارات الظنّيّة. منه مدّ ظلّه.