(صفحه158)
ويمكن المناقشة فيه أوّلاً: بمنع الملازمة، فإنّ الإخبار عن النبيّ صلىاللهعليهوآله يكون إخباراً عن حسّ حتّى فيما إذا تعدّدت الوسائط، فإنّ كلّ واسطةيروي ما تحمّله حسّاً عمّن فوقه إلى أن ينتهي إليه صلىاللهعليهوآله ، وأمّا الإخبار عن اللّهسبحانه فبأيّ نحوٍ يمكن أن يتحقّق بعد أن انقطع ما كان مختصّاً بالأنبياء عليهمالسلام من وساطة جبرئيل التي يعبّر عنها بـ «الوحي» والاستماع من الشجرةونحوها؟!
وبالجملة: قياس الإخبار عن اللّه تعالى بالإخبار عن الرسول صلىاللهعليهوآله معالفارق.
وثانياً: سلّمنا الملازمة، لكن بطلان التالي في قول ابن قبة: «والتالي باطلإجماعاً» إن كان بمعنى عدم إمكان التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن اللّه تعالىفهو من المسائل العقليّة التي لا يمكن إثباتها إلاّ بحكم العقل، فكيف تمسّك فيهبالإجماع الذي لا يمكن أن يكون مرجعاً في مثل هذه المسائل؟!
وإن كان بمعنى عدم وقوع التعبّد به في مقام الإثبات، فهو مغاير لمدّعاه،وهو استحالة وقوع التعبّد بخبر الواحد.
وثالثاً: أنّ الإجماع الذي استدلّ به على بطلان التالي وإن كان إجماعمحصّلاً بالنسبة إلى ابن قبة، إلاّ أنّه منقول بالنسبة إلينا، والإجماع المنقول لوكان حجّة فإنّما هو لأجل كونه من مصاديق خبر الواحد، وهل يصحّ التمسّكبالخبر الواحد لإثبات امتناع التعبّد به؟!
الثاني: أنّ في التعبّد بالمظنّة(1) عدّة توالٍ فاسدة: بعضها يترتّب على أصلالخطابات، وبعضها الآخر على أمر متأخّر لازم لها، وبعض ثالث يرتبط بم
- (1) هذا الدليل لو تمّ لعمّ جميع الظنون وإن ذكره ابن قبة في مقام إثبات امتناع التعبّد بخبر الواحد، كالدليلالأوّل. منه مدّ ظلّه.
ج4
هو متقدّم عليها، وهو أيضاً على نوعين: لأنّ بعضها يترتّب على ملاكاتالأحكام(1)، وبعضها الآخر على مباديها(2).
التعبّد بالأمارات هل يوجب اجتماع المثلين أو الضدّين؟
أمّا المحذور الأوّل ـ أعني ما يرتبط بأصل الخطاب ـ فهو أنّ جعل الحجّيّةلخبر الواحد(3) يستلزم اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلاً فيما أصاب،واجتماع الضدّين من إيجاب وتحريم فيما أخطأ.
وفيه أوّلاً: أنّك عرفت في مبحث اجتماع الأمر والنهي أنّ التضادّوالتماثل يرتبطان بالواقعيّات، فلا يجريان في الأحكام التي هي من الاُمورالاعتباريّة.
وثانياً: أنّ جعل الحجّيّة لخبر العادل مثلاً لا يستلزم جعل حكم على طبقه،ليلزم منه اجتماع المثلين أو الضدّين، بل الحجّيّة تكون بمعنى المنجّزيّةوالمعذّريّة، فذلك الحكم الواقعي يتنجّز على المكلّف فيما أصاب الحجّة، وهومعذور في مخالفته فيما أخطأت.
التعبّد بالأمارات هل يستلزم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة؟
وأمّا المحذور الثاني ـ أعني ما يرتبط بلازم الخطاب ـ فهو أنّ خبر الواحدلو كان حجّة لا نجرّ إلى تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما أدّى إلىعدم وجوب ما هو واجب أو عدم حرمة ما هو حرام وكونه محكوماً بسائرالأحكام، وإلى ذلك ينظر الاستدلال المحكيّ عن ابن قبة، من أنّه يوجب
- (1) كاجتماع المصلحة والمفسدة. منه مدّ ظلّه.
- (2) كاجتماع الإرادة والكراهة. منه مدّ ظلّه.
- (3) ذكر الخبر الواحد من باب المثال، إذ قد عرفت شمول البحث لجميع الأمارات الظنّيّة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه160)
تحليل الحرام وتحريم الحلال.
وهذا الدليل يتوقّف على أمرين:
أ ـ أن تكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلّقات، كما هو مذهبالإماميّة(1) والمعتزلة، خلافاً للأشاعرة.
ب ـ أن يكون جعل الحجّيّة للطرق والأمارات لصرف الطريقيّة، بمعنى أنّالشارع حيث رأى خبر الثقة موافقاً للواقع غالباً جعله حجّة منجّزة فيمأصاب ومعذّرة فيما أخطأ.
وأمّا لو كان حجّيّة الأمارات من باب السببيّة ـ بمعنى أنّ الحكم الواقعيمحفوظ فيما إذا لم يقم دليل على خلافه، وإلاّ فهو يتبدّل إلى ما هو مؤدّىالأمارة ـ فلا تفويت لمصلحة ولا إلقاء في مفسدة، فلا مجال للقول بامتناعالتعبّد بالظنّ باستناد استلزامه لذلك.
كما أنّه لا مجال لهذا الدليل لو قلنا بالمصلحة السلوكيّة، بمعنى أنّ المصلحةالفائتة ـ على تقدير مخالفة الأمارة للواقع ـ تتدارك بجعل مصلحة اُخرىمترتّبة على السلوك على طبقها وتطبيق العمل على مؤدّاها، لعدم تحقّق تفويتالمصلحة أو الإلقاء في المفسدة بناءً على هذا الفرض أيضاً.
لكنّ الإنصاف ـ كما تقدّم آنفاً ـ هو كون حجّيّة الأمارات من بابالطريقيّة، كما أنّ الحقّ ما ذهب إليه المعتزلة والإماميّة من أنّ الأحكام تابعةللمصالح والمفاسد الواقعيّة، فتمّ الأمران اللذان يبتني عليهما دليل ابن قبةلإثبات امتناع التعبّد بالأمارات الظنّية.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
- (1) نعم، ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله في بعض كلماته إلى أنّ المصلحة قد تكون في نفس الحكم والإيجابوالتحريم، لا أن يكون الواجب مشتملاً على مصلحة والحرام على مفسدة. منه مدّ ظلّه.
ج4
وقال المحقّق النائيني بابتنائه على أمر ثالث أيضاً، وهو انفتاح باب العلم(1)وإمكان الوصول إلى الواقعيّات، وأمّا في صورة الانسداد فلا يلزم محذورتفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة.
توضيح ذلك: أنّ المكلّف يعلم إجمالاً بوجود أحكام واقعيّة تابعةللمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فإذا انسدّ عليه باب العلم بمواردها ـ كمفي عصر الغيبة ـ فلا يتمكّن من استيفاء تمام تلك المصالح والاحتراز عنجميع تلك المفاسد إلاّ بالاحتياط التامّ، بإيجاد كلّ ما يحتمل وجوبهوالاجتناب عن جميع ما يحتمل حرمته، وهذا ما لا يلائمه مبنى الشريعةالسمحة السهلة.
وحينئذٍ لو لم تكن الأمارات حجّة لفات عن المكلّف جميع المصالحوالخيرات، بخلاف ما إذا جعلت حجّة، فإنّه يستلزم أن يعمل ببعض الأحكام،وهو المقدار الذي تصيب الأمارة للواقع، فإنّه خير جاء من قبل التعبّدبالأمارة، ولو كان مورد الإصابة أقلّ قليل، فإنّ ذلك القليل أيضاً كان يفوتلولا التعبّد، فلا يلزم من التعبّد إلاّ الخير(2).
هذا حاصل كلام المحقّق النائيني رحمهالله .
نقد ما أفاده رحمهالله
وفي هذا الكلام بهذا البيان(3) نظر، فإنّ المكلّف إذا علم إجمالاً بتكاليفواقعيّة ذات مصالح لازمة الاستيفاء ومفاسد لازمة الاجتناب وانسدّ عليهباب العلم بها فما الذي دعا الشارع إلى نفي وجوب الاحتياط، مع أنّ العقل
- (1) أي خصوص العلم، لا العلم والعلمي. منه مدّ ظلّه.
- (3) نعم، سنكمّله ونبيّنه بصورة اُخرى ونذكره في جواب ابن قبة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه162)
يحكم بكون العلم الإجمالي منجّزاً للواقع، فيجب الاحتياط في أطرافه لأجلاستيفاء تلك المصالح والاحتراز عن تلك المفاسد؟!
فماذا نقول حول دليل ابن قبة بعد تسلّم ذينك الأمرين الذين يتوقّفعليهما؟
الحقّ في المسألة
والحقّ عدم امتناع التعبّد بالأمارات، لا في حال الانفتاح ولا في حالالانسداد.
أمّا في حال الانفتاح ـ وبتعبير آخر زمن حضور المعصوم عليهالسلام ـ فلأنّوجوب رجوع كلّ شخص إليه لأخذ المسائل الشرعيّة من فيه عليهالسلام مباشرةًوعدم حجّيّة ما نقله مثل زرارة وأبي بصير ومحمّد بن مسلم يستلزممشكلات عديدة:
1ـ عدم تمكّن كثير من المسلمين من التشرّف بخدمة الأئمّة عليهمالسلام ، لبُعدالمسافة، سيّما بعد دخول البلاد النائية تحت ظلّ الإسلام وعدم تمكّن البشر فيذلك العصر ممّا يتمكّن اليوم من الطائرات والسيّارات ومن مثل الاتّصالاتالهاتفيّة لاستماع كلامهم عليهمالسلام بلا واسطة، فمن كان في بلاد مصر والشام والعراقوإيران ولم يتمكّن من السفر إلى المدينة المنوّرة عند مواجهته لكلّ مسألةشرعيّة فماذا يفعل لو لم يعتبر خبر الثقة الناقل للأحكام؟!
2ـ فرضنا تمكّن جميع المسلمين من الحضور عند الإمام عليهالسلام ، لكنّه كانيستلزم الزحام الكثير عند بابه عليهالسلام بحيث لا يقدر على جواب جميع الأسئلة،ولو كان مشتغلاً بذلك في جميع آنات حياته الشريفة.
3ـ فرضنا قدرته عليهالسلام على ذلك وإمكان تحمّل تلك المشاقّ من قبل