والحاصل: أنّه لا يمكن إثبات امتناع التعبّد بالمظنّة من جهة استلزامه تحليلالحرام وتحريم الحلال، لا في حال انفتاح باب العلم بالأحكام ولا في حالانسداده.
والعجب من الشيخ الأعظم رحمهالله حيث التزم بامتناع التعبّد بالمظنّة في حالالانفتاح، فإنّه قال: أمّا إيجاب العمل بالخبر على الوجه الأوّل(2) فهو وإن كانفي نفسه قبيحاً مع فرض انفتاح باب العلم لما ذكره المستدلّ من تحريم الحلالوتحليل الحرام، لكن لا يمتنع أن يكون الخبر أغلب مطابقةً للواقع في نظرالشارع من الأدلّة القطعيّة التي يستعملها المكلّف للوصول إلى الحرام والحلالالواقعيّين أو يكونا متساويين في نظره من حيث الإيصال إلى الواقع، إلاّ أنيقال: إنّ هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم والعجز عن الوصول إلىالواقع، إذ ليس المراد انسداد باب الاعتقاد ولو كان جهلاً مركّباً كما تقدّمسابقاً، فالأولى الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن عن الواقع(3).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
وفي آخر كلامه في المسألة أيضاً إشارة إلى ذلك(1).
وقد عرفت جوابه ممّا سبق آنفاً.
البحث حول المصلحة السلوكيّة
وأمّا في زمن الانسداد فأجاب عمّا استدلّ به ابن قبة لإثبات الاستحالةبأنّ ما فات على المكلّف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافهيتدارك بالمصلحة السلوكيّة.
توضيح ذلك: أنّ التعبّد بالمظنّة يتصوّر على وجهين:
الأوّل: أن يكون ذلك من باب الطريقيّة ومجرّد الكشف عن الواقع، من دونأن تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في مؤدّاها أو في سلوكها وتطبيقالعمل عليها.
الثاني: أن يكون من باب السببيّة ومدخليّة سلوك الأمارة في مصلحةالعمل وإن خالف الواقع، فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطريق وتطبيقالعمل عليه، فإنّها مساوية لمصلحة الواقع أو أرجح منها، فيتدارك بها ما فاتعلى المكلّف من مصلحة الواقع(2).
هذا حاصل ما أفاده الشيخ رحمهالله في المقام.
والمحقّق النائيني رحمهالله قام بتوضيح كلام الشيخ رحمهالله بقوله:
وتفصيل ذلك: هو أنّ سببيّة الأمارة لحدوث المصلحة تتصوّر على وجوهثلاث:
الأوّل: أن تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في المؤدّى تستتبع الحكم
- (1) فرائد الاُصول 1: 123.
- (2) فرائد الاُصول 1: 112 ـ 123.
ج4
على طبقها، بحيث لا يكون وراء المؤدّى حكم في حقّ من قامت عندهالأمارة، فتكون الأحكام الواقعيّة مختصّة في حقّ العالم بها ولا يكون في حقّالجاهل بها سوى مؤدّيات الطرق والأمارات، فتكون الأحكام الواقعيّة تابعةًلآراء المجتهدين، وهذا هو «التصويب الأشعري» الذي قامت الضرورة علىخلافه، وقد ادّعي تواتر الأخبار على أنّ الأحكام الواقعيّة يشترك فيها العالموالجاهل، أصابها من أصاب وأخطأها من أخطأ.
الثاني: أن تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في المؤدّى أيضاً أقوى منمصلحة الواقع، بحيث يكون الحكم الفعلي في حقّ من قامت عنده الأمارة هوالمؤدّى، وإن كان في الواقع أحكام ويشترك فيها العالم والجاهل على طبقالمصالح والمفاسد النفس الأمريّة، إلاّ أنّ قيام الأمارة على الخلاف تكون منقبيل الطوارئ والعوارض والعناوين الثانويّة اللاحقة للموضوعات الأوّليّةالمغيّرة لجهة حسنها وقبحها، نظير الضرر والحرج، ولابدّ وأن تكون المصلحةالطارئة بسبب قيام الأمارة أقوى من مصلحة الواقع، إذ لو كانت مساوية لهكان الحكم هو التخيير بين المؤدّى وبين الواقع، مع أنّ المفروض أنّ الحكمالفعلي ليس إلاّ المؤدّى، وهذا الوجه هو «التصويب المعتزلي» ويتلو الوجهالسابق في الفساد والبطلان، فإنّ الإجماع انعقد على أنّ الأمارة لا تغيّر الواقعولا تمسّ كرامته بوجه من الوجوه، وسيأتي ما في دعوى أنّ الحكم الفعلي فيحقّ من قامت عنده الأمارة هو مؤدّى الأمارة.
الثالث: أن تكون قيام الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاءالواقع والمؤدّى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة، من دون أن يحدث فيالمؤدّى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه قبل قيام الأمارة، بلالمصلحة إنّما تكون في تطرّق الطريق وسلوك الأمارة وتطبيق العمل على