ج4
وظاهر في منع تفسير ظواهره، فإنّ حمل اللفظ على ما هو ظاهر فيه من المعنىيكون من مصاديق التفسير بالرأي المحرّم.
وفيه أوّلاً: أنّ حمل اللفظ على ظاهره لا يعدّ تفسيراً، فإنّ التفسير عبارة عنكشف القناع وإظهار ما هو مستور، وحمل اللفظ على ظاهره ليس من هذالقبيل.
وثانياً: سلّمنا أنّه نوع من التفسير، إلاّ أنّه ليس تفسيراً بالرأي، فإنّ التفسيربالرأي عبارة عن حمل اللفظ على غير ما هو المتفاهم عند العرف، وأمّا حملهعلى ظاهره الذي يحمله جميع العقلاء عليه فلا يعدّ تفسيراً بالرأي وبعقيدةشخص خاصّ.
وثالثاً: أنّه لو فرض صدق التفسير بالرأي عليه ودخوله تحت إطلاقالروايات الناهية عنه فلابدّ من تقييد هذه الأخبار بما تقدّم من الأحاديثالدالّة على حجّيّة ظواهر الكتاب، لحكومتها عليها، فتختصّ الأخبار الناهيةـ بحسب الإرادة الجدّيّة ـ بمصداقها المتيقّن، وهو تفسير مجملات القرآن.
ومنها: أنّ الكتاب نفسه نهى عن اتّباع متشابهاته بقوله: «فأمّا الَّذِينَ فِىقُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهى»(1).
والاستدلال بهذه الآية يتوقّف على أمرين:
أ ـ أن تكون نصّاً في حرمة اتّباع «المتشابه» وإلاّ فلو كانت ظاهرة فيهلاستلزم الاستدلال بها أن يكون وجود الشيء موجباً لعدمه، وهو محال.
ب ـ أن يكون للمتشابه مصداقان: أحدهما: المجمل، وهو مصداقه البيّنالواضح، والآخر: حمل اللفظ على ظاهره، فكما أنّ اتّباع المجملات محرّم بحكمالآية فكذلك اتّباع الظواهر.
(صفحه230)
ويرد عليه أنّ الخصم لو أراد أنّ «المتشابه» نصّ في المجمل والظاهر كليهمبلا فرق بينهما، ففيه: أنّه يستلزم أن يكون قولنا: «رأيت أسداً» مثل قولنا:«رأيت عيناً» فكما أنّ «رأيت عيناً» يكون من الألفاظ المتشابهة قطعاً ولنفهم منه شيئاً، فكذلك «رأيت أسداً» وهل يمكن الالتزام بذلك؟! فلو لم يمكنتفهيم المعنى الحقيقي من طريق استعمال اللفظ الموضوع لمعنى واحد فيما وضع لهبدون قرينة المجاز فبأيّ لفظ يمكن تفهيمه إذا أراده المتكلّم؟!
ولو أراد أنّه نصّ في شمول المجمل وظاهر في شمول الظاهر، ففيه أوّلاً: أنّنمنع ظهوره فيه بالبيان المتقدّم، وثانياً: أنّ إثبات عدم حجّيّة ظاهر الكتاببظاهره محال، لاستلزامه أن يكون وجود الشيء موجباً لعدمه كما تقدّم.
ولو أراد احتمال شموله له، ففيه: أنّه كيف يتمكّن من أنكر حجّيّة ظواهرالكتاب أن يثبت مدّعاه بآية يحتمل كون الظواهر من مصاديقها(1)؟!
وأمّا الطائفة الثانية(2)
فمنها: أنّ الكتاب العزيز يشتمل على مطالب عالية غامضة في فنون كثيرة،ولا يتمكّن البشر العادي بأفكاره السطحيّة من صعود تلك القلل الرفيعةوالوصول إلى مضامين القرآن الشامخة.
ويشهد عليه بعض ما ورد في محاورات الأئمّة عليهمالسلام مع مخالفيهم.
ففي مرسلة شبيب بن أنس عن أبي عبداللّه عليهالسلام أنّه قال لأبي حنيفة: «أنتفقيه العراق؟ قال: نعم، قال: فبِمَ تفتيهم؟ قال: بكتاب اللّه وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ، قال:ياأبا حنيفة تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال:
- (1) وبعبارة اُخرى: إذا امتنع التمسّك بظاهر الكتاب لإثبات عدم حجّيّة ظواهره فالتمسّك باحتمالاته لإثباتذلك ممتنع بطريق أولى. م ح ـ ى.
- (2) وهي ما كان ناظراً إلى منع أصل الظهور. م ح ـ ى.
ج4
نعم، قال: ياأبا حنيفة لقد ادّعيت علماً، ويلك ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهلالكتاب الذين اُنزل عليهم، ويلك، ولا هو إلاّ عند الخاصّ من ذريّة نبيّنمحمّد صلىاللهعليهوآله وما ورّثك اللّه من كتابه حرفاً»(1). الحديث.
وفي رواية زيد الشحّام، قال: «دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليهالسلام فقال: ياقتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبوجعفر عليهالسلام : بلغني أنّك تفسّر القرآن، فقال له قتادة: نعم، فقال له أبوجعفر عليهالسلام :... ويحك ياقتادة، إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك، فقدهلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسّرته من الرجال، فقد هلكت وأهلكت،ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من(2) خوطب به»(3).
وفيه: أنّا لا ندّعي حجّيّة جميع القرآن، كيف وهو يشتمل على آياتمتشابهات لا نقدر على أن ندرك مطالبها العالية الشامخة بعقولنا القاصرة، بلندّعي حجّيّة محكماته التي من مصاديقها الظواهر، فإذا رأينا آية ظاهرة المعنىولم يرد من قبل أهل البيت عليهمالسلام بيان على خلافه، كان ظهورها حجّة لنا،فانظر إلى وجدانك هل يمكن الالتزام بعدم إمكان استفادة وجوب الصلاةوالزكاة والصوم والحجّ من قوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ»(4)وقوله: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»(5) وقوله: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِاسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(6)؟!
والقرآن نفسه أيضاً لم يمنع عن اتّباع محكماته، بل نهى عن اتّباع متشابهاته
- (1) وسائل الشيعة 27: 47، كتاب القضاء، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
- (2) أراد عليهالسلام بـ «من خوطب به» الذين اُنزل القرآن في بيتهم عليهمالسلام . منه مدّ ظلّه.
- (3) وسائل الشيعة 27: 185، كتاب القضاء، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 25.
(صفحه232)
كما تقدّم.
بل القول بقصور أفهامنا عن إدراك ظواهر القرآن ـ كما تكون قاصرة عنإدراك متشابهاته ـ ينافي كونه معجزة خالدة تدعو جميع من سوى اللّه تعالىإلى الإتيان بمثله، وينافي أيضاً كونه مرجعاً للناس، هادياً لهم، مقرّباً إيّاهم إلىالسعادة الدنيويّة والاُخرويّة، ضرورة أنّه لا يصحّ دعوة الناس إلى الإتيانبمثل كلام مغلق مجمل لا يفهمه أحد منهم، ولا يمكن لهم التمسّك به كي يهتدووينالوا السعادة الأبديّة كما تقدّم.
وأمّا ما استشهد به من كلام الإمام عليهالسلام في جواب أبي حنيفة، ففيه: أنّه عليهالسلام لميرد أنّ أبا حنيفة عاجز عن درك ظواهر القرآن، بل حيث ادّعى أبو حنيفةمعرفة جميع كتاب اللّه حقّ معرفته خطّأه الإمام عليهالسلام بقوله: «ما ورّثك اللّه منكتابه حرفاً» يعني لا تقدر على فهم حرف واحد من حروف القرآن التييحتاج فهمها إلى الوراثة الإلهيّة.
وأمّا حمل اللفظ على ظاهره فلا يحتاج إلى تعليم من اللّه ووراثة منه، بليكفي فيه الاطّلاع على اللغة وأدبيّات العرب، بخلاف ما هو غير ظاهر المعنىمن الآيات، فإنّها لا يمكن درك معانيها إلاّ بالعناية الإلهيّة التي لم يشمّ رائحتهأبو حنيفة وأمثاله.
وأمّا ما تقدّم من رواية زيد الشحّام فلا يرتبط بالمقام؛ لأنّ الإمام عليهالسلام خطّقتادة في أنّه كان يفسّر القرآن، وحمل اللفظ على ظاهره لا يعدّ تفسيراً، لأنّهعبارة عن كشف القناع وإظهار ما هو مستور، والحمل على الظاهر ليس منهذا القبيل كما تقدّم.
وقوله عليهالسلام في ذيل الرواية: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» يعني به«تفسير القرآن» بقرينة صدرها.
ج4
ومنها: أنّ ظواهر الكتاب وإن لم تكن مجملةً ذاتاً إلاّ أنّا نعلم بطروّ التقييدوالتخصيص والتجوّز فيها، وذلك ممّا يسقطها عن الظهور.
ولا يخفى أنّ لهذه الشبهة احتمالين:
أحدهما: دعوى وجود ما يسقطها عن الظهور في الروايات.
ثانيهما: دعوى أنّه كان يتّصل بظواهر القرآن ما يخصّصها أو يقيّدها أويصرفها إلى المعنى المجازي لكنّه لم يصل إلينا، وهذا يبتني على قبول تحريفالقرآن.
أمّا الاحتمال الأوّل: ففيه أوّلاً: النقض بظواهر السنّة، فإنّا نعلم بطروّ مخالفةالظاهر فيها إجمالاً.
وثانياً: أنّ هذا لا يوجب السقوط عن الظهور، وإنّما يوجب الفحص عمّيوجب مخالفة الظاهر، فبعد الفحص واليأس عن ذلك يجوز حمل اللفظ علىظاهره من العموم والإطلاق والمعنى الحقيقي، وقبله لا يجوز، ولا فرق في ذلكبين ظواهر الكتاب والسنّة.
البحث حول تحريف القرآن
وأمّا الاحتمال الثاني: فورد في بعض الروايات المجعولة أنّه حذف من بينالشرط والجزاء في قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَـمَى فَانْكِحُواْ مَطَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـثَ وَرُبَـعَ»(1) أكثر من ثلث القرآن(2).
واغترّ بعضهم ـ كالمحقّق الخراساني رحمهالله ـ بمثل هذا الحديث وقال:«ويساعده(3) الاعتبار»(4). مع أنّه رحمهالله لو راجع التفاسير ولاحظ ما قاله
- (3) أي يساعد وقوع التحريف في القرآن. م ح ـ ى.