ثمّ جعل لكلّ قسم من الأقسام الثمانية بحثا مستقلاًّ.
و الحقّ ما اختاره المحقّق الخراساني رحمهالله في ذلك حيث لم يفرّق بين الأقسام،بل جعل للجميع بحثا واحدا، وذلك لوحدة الملاك في جميع أقسام الشكّ فيالتكليف، فما سلكه الشيخ الأعظم رحمهالله تطويل بلاطائل معتدّبه.
الثاني: أنّ الاُصوليّين قالوا بجريان البرائة في جميع الشبهات البدويّة،وخالفهم الأخباريّون في خصوص الشبهات التحريميّة الحكميّة، فقالوبوجوب الاحتياط فيها.
والظاهر أنّ النزاع صغروي لا كبروي؛ لأنّ قبح العقاب بلا بيان قاعدةعقليّة مسلّمة غير قابلة للإنكار، فلا ينبغي إسناد إنكارها إلى الأخباريّين، بلإنّهم يعتقدون بعدم جريانها في الشبهات التحريميّة لأجل وجود البيان فيها،وهو ما دلّ على وجوب الاحتياط في المشتبهات.
وبعبارة اُخرى: إنّ العقل يحكم بقبح العقاب على مخالفة تكليف لم يقم عليهبيان ودليل، فلو دلّ عليه دليل لارتفع موضوع حكم العقل وصحّت العقوبةعلى المخالفة.
هذا ما تسالم عليه الاُصوليّون والأخباريّون.
لكنّ الأخباريّين قالوا: ما دلّ على وجوب الاحتياط عند الشبهات بيانرافع لموضوع تلك القاعدة العقليّة في الشبهات التحريميّة الحكميّة. بخلافالاُصوليّين، فإنّ أدلّة الاحتياط عندهم إمّا مخدوشة سندا أو دلالة، وإمّمحمولة على الشبهات المحصورة من أطراف العلم الإجمالي، وإن كان العقليحكم بلزوم الاحتياط فيها ولو لم يكن أدلّة الاحتياط، لاستقلال العقل بتنجّزالتكليف المعلوم بالإجمال كالمعلوم بالتفصيل.
فإذا عرفت ما ذكرنا من كون البحث مع الأخباريّين صغرويّا يتبيّن لك أنّهلا يكون في مقام مناقشة مقالتهم إلاّ بعض ما سيأتي من أدلّة البرائة، وهو مكان بلسانه حاكما على أدلّة الاحتياط، وأمّا مثل قاعدة قبح العقاب بلابيانفلا ينهض دليلاً عليهم، لعدم إنكارهم له كما عرفت.
(صفحه348)
في الآيات الّتي استدلّ بها على البرائة
أدلّة البرائة
استدلّوا على جريان البرائة في الشبهات البدويّة ـ وجوبيّة كانت أوتحريميّة، حكميّة كانت أو موضوعيّة ـ بالأدلّة الأربعة.
الآيات التي استدلّ بها في المقام
أمّا الكتاب:
فمنه قوله تعالى: «مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَيَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَرَسُولاً»(1).
فإنّ بعث الرسول كناية عن بيان التكليف، فذيل الآية الشريفة يدلّ علىنفي العقوبة على مخالفة تكليف لم يتبيّن للمكلّف، وهو عبارة اُخرى عن قاعدةقبح العقاب بلابيان التي يحكم بها العقل.
المناقشات الواردة على الآية الشريفة
و نوقش في الاستدلال بالآية بوجوه:
أحدها: ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله ، وهو أنّ ظاهره الإخبار
ج4
بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الاُممالسابقة(1).
نقد كلام الشيخ رحمهالله حول الآية الشريفة
وفيه أوّلاً: أنّه لا وجه لحمل الآية على تعذيب الاُمم السابقة إلاّ قوله تعالى:«مَا كُنَّا» بصيغة الماضي، مع أنّه لا يصلح له، فإنّ هذا التعبير كثيرا ما يراد بهنفي الشأنيّة، فكأنّه تعالى قال: «ليس من شأننا أن نعذّب أحدا حتّى نبعثرسولاً».
و إرادة هذا المعنى من مثل هذا التعبير متداولة، سيّما في كلمات اللّه تعالى، كمقال: «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْيَسْتَغْفِرُونَ»(2).
وثانيا: أنّ الآية السابقة عليها ـ وهي قوله تعالى: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُطَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابا يَلْقَاهُ مَنشُورا* اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىبِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبا»(3) ـ مربوطة بالقيامة، والآية اللاحقة لها ـ وهيقوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَالْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرا»(4) ـ مربوطة بالعقاب الدنيوى، فالسياق يقتضي أنيكون التعذيب في الآية المبحوث عنها عامّا للعذاب الاُخروي والدنيويكليهما، لتناسب ما قبلها وما بعدها.
وثالثا: سلّمنا اختصاص العذاب في الآية بالعذاب الدنيوي الواقع على