وحاصل ما تقدّم: أنّ الاُصولي والأخباري تسالما على وجود تينكالقاعدتين العقليّتين، إلاّ أنّهما اختلفا فيما هو المتقدّم منهما، فادّعى كلّ منهمعكس ما ادّعاه الآخر، وكلام كلّ منهما بلادليل، فماذا نفعل في المقام؟
فكلّ من الاُصولي والأخباري تمسّك في الواقع بقياس ينتج عكس مينتجه قياس خصمه، فالتعارض إنّما هو بين القياسين لا بين القاعدتين، إذ كلّ
منهما تكون كبرى لواحد من القياسين المتعارضين.
وإذا كان التعارض بين القياسين فلابدّ من ملاحظة أنّ أيّهما يكون ناقصا،وبعبارة اُخرى متأخّرا عن الآخر، فنقول:
لايمكن المناقشة في قياس الاُصوليّين، وهو أنّ «العقاب على شرب التتنعقاب بلابيان، وهو قبيح» أمّا الصغرى فهو أمر وجداني، لأنّ المكلّف إذفحص في مظانّ ورود حكم شرب التتن فحصا تامّا ويئس عن الظفر بدليلعلى حرمته ـ كما هو المفروض ـ فقد أحرز عدم البيان الواصل، وأمّا الكبرىفقد عرفت أنّه حكم عقلي قطعي.
وأمّا قياس الأخباريّين ـ وهو أنّ «في شرب التتن احتمال الضرر، ودفعالضرر المحتمل لازم» ـ فكبراه وإن كانت حكما عقليّا مسلّما، إلاّ أنّ صغراهمخدوشة.
توضيح ذلك: أنّه لا يمكن إنكار احتمال العقوبة في موارد من ارتكابالشبهة التحريميّة: 1ـ إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي، 2ـ إذا كانالارتكاب بدون الفحص، 3ـ إذا كان الفحص ناقصا، 4ـ لو لم يحكم العقلبـ «قبح العقاب بلابيان» حتّى فيما إذا كان الفحص تامّا، 5ـ لو لم يمتنع على اللّهسبحانه ارتكاب القبيح.
وأمّا إذا كانت الشبهة بدويّة أوّلاً، وفحص المكلف عن الدليل فحصا تامّموجبا لليأس عن الظفر به ثانيا، وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ثالثا،وامتنع ارتكاب القبيح عليه تعالى رابعا، فلامجال للقول بأنّ في ارتكابهاحتمال العقوبة كما لا يخفى.
وبعبارة اُخرى: احتمال العقوبة ـ مثل نفس العقوبة ـ يحتاج إلى ملاك، ولملاك له في الشبهات البدويّة الواجدة للقيود المتقدّمة.
ج4
لايقال: احتمال العقوبة ملازم لاحتمال الحرمة.
فإنّه يقال: هذا أوّل الكلام، فإنّ الاُصولي يدّعي عدم الملازمة بينهما، فلابدّللأخباري من إقامة برهان على ثبوتها.
والحاصل: أنّ الأخباري عاجز عن إثبات صغرى قياسه، بخلافالاُصولي، فإنّ صغرى قياسه أمر محرز بالوجدان، وينتج نفي احتمال العقوبة،وبه يرتفع موضوع حكم العقل بـ «لزوم دفع الضرر المحتمل».
استدلال الأخباريّين بالعلم الإجمالي لإثبات وجوب الاحتياط
الثالث: أنّا نعلم إجمالاً بوجود تكاليف لزوميّة كثيرة في الشريعةالإسلاميّة، فلابدّ من الاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته، لكونه من أطرافالعلم الإجمالي، والعقل يحكم بتنجّز التكليف به كما يتنجّز بالعلم التفصيلي.
وبعبارة اُخرى: الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، فلابدّ منالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته، لنعلم موافقة تلك التكاليف المعلومةبالإجمال.
نقد الاستدلال بالعلم الإجمالي لإثبات وجوب الاحتياط
وفيه أوّلاً: أنّه لو تمّ لاقتضى وجوب الاحتياط حتّى في الشبهات الوجوبيّةوالموضوعيّة من التحريميّة، لكونهما أيضا من أطراف العلم الإجمالي، فلمذهبالأخباري بجريان البرائة فيهما؟!
فما كان وجه جريانها فيهما عنده فهو وجه جريانها في الشبهات الحكميّةالتحريميّة عند الاُصولي طابق النعل بالنعل.
البحث حول انحلال العلم الإجمالي حقيقة وحكم