(صفحه456)
وثانيا: أنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ إلى علم إجمالي صغير وشكّ بدوي، ولابدّ لنا من إيراد بحث كلّي حول الانحلال ثمّ تطبيقه على محلّ النزاع، فنقول:
انحلال العلم الإجمالي تارةً يكون حقيقيّا واُخرى حكميّا.
والمراد بالانحلال الحقيقي زوال العلم الإجمالي عن صفحة نفس الإنسانواقعا، وبالانحلال الحكمي أن لا يزول العلم الإجمالي، لكنّه صار بلاأثر ولميكن منجّزا للتكليف.
ومن أمثلة الانحلال الحقيقي أن يعلم الإنسان إجمالاً بخمريّة أحد الإنائينالواقع أحدهما في يمينه والآخر في يساره، ثمّ يعلم بأنّ تلك الخمر المعلومةبالإجمال تكون في الإناء الواقع في طرف اليمين، فحينئذ انحلّ العلم الإجماليحقيقة إلى العلم التفصيلي، فلا دليل على لزوم الاجتناب عن الإناء الآخر،سواء علم بعدم خمريّته أو شكّ فيها.
ومن أمثلته انحلال العلم الإجمالي الواسع إلى الضيّق، كما إذا علم إجمالبغصبيّة خمسة رؤوس من قطيع غنم، ثمّ علم بأنّ تلك الأغنام الخمسةالمغصوبة تكون بين الصنف الأبيض من القطيع، فإن حلّ العلم الإجمالي الكبيرإلى الصغير حقيقةً، فلابدّ من الاجتناب من أطراف هذا العلم الإجمالي الصغير،وهي جميع الأغنام البيضاء، وأمّا الأغنام السوداء فلا يجب الاجتناب عنها،سواء علم بعدم غصبيّة جميعها أو شكّ في غصبيّة بعضها.
وهاهنا مورد آخر اختلفوا في كونه انحلالاً حقيقيّا أو حكميّا، وهو ما إذاحتمل مغايرة المعلوم بالتفصيل أو بالعلم الإجمالي الصغير مع المعلومبالإجمال، كما إذا علمنا بخمريّة أحد المايعين، ثمّ علمنا بخمريّة أحدهمبالخصوص، لكن نحتمل أن تكون غير تلك الخمر المعلومة بالإجمال(1).
- (1) لأنّ المعلوم بالإجمال هو خمريّة أحدهما، لكنّ الآخر كان مشكوك الخمريّة لا معلوم العدم. م ح ـ ى.
ج4
وكما إذا علمنا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة في يومها ثمّ دلّت أمارةمعتبرة أو أصل عملي معتبر على وجوب صلاة الجمعة، لكنّا نحتمل أن تكونالأمارة أو الأصل مخالفا للواقع وكان الواجب هو صلاة الظهر، فلانعلم أنّمؤدّى الأمارة أو الأصل هو نفس تلك الصلاة المعلومة بالإجمال.
وكما إذا حصل لنا علم إجمالي صغير عقيب العلم الإجمالي الكبير، لكناحتملنا المغايرة بين معلوميهما، كما إذا احتملنا في المثال السابق أن يكونالأغنام المغصوبة الموجودة في الصنف الأبيض مغايرة لما علم بالعلم الإجماليالكبير.
لا خلاف ظاهرا بين الأكابر من الاُصوليّين في انحلال العلم الإجمالي فيهذا المورد أيضا، إنّما الإشكال والخلاف في أنّه انحلال حقيقي أو حكمي؟
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المسألة
ذهب المحقّق العراقي رحمهالله إلى كون الانحلال في هذا القسم حكميّا، ويستفاد منمطاوي كلامه ما يمكن أن يجعل مقدّمة لأصل مرامه:
وهو أنّ الحكم إذا تنجّز ـ أي صار بحيث يترتّب على مخالفته استحقاقالعقوبة ـ لا يكاد يتنجّز مرّة اُخرى(1).
وكما يتنجّز الحكم بالعلم التفصيلي، كذلك يتنجّز بالعلم الإجمالي، ومعنىتنجّزه بالعلم التفصيلي واضح، وأمّا المراد به في موارد العلم الإجمالي فهو أنّالمعلوم بالإجمال يترتّب على مخالفته استحقاق العقوبة على أيّ حال، وبعبارةاُخرى: يؤثّر العلم الإجمالي تأثيرا تامّا في إثبات متعلّقه على عهدة المكلّف في
- (1) وأسباب تنجّز الحكم ثلاثة: أ ـ العلم، سواء كان تفصيليّا أو إجماليّا، ب ـ الأمارة المعتبرة، ج ـ الأصلالعملي. منه مدّ ظلّه توضيحا لكلام المحقّق العراقي رحمهالله .
(صفحه458)
أيّ طرف كان.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّك إذا علمت إجمالاً بوجوب صلاة الظهر أوالجمعة، لكن قامت أمارة معتبرة أو أصل عملي على وجوب أحدهمبالخصوص فلم يؤثّر العلم الإجمالي في مؤدّاهما، لكون الأمارة والأصل حجّةشرعيّة، فلا معنى لتأثير العلم الإجمالي فيما ثبت بهما، لما تقدم من عدم تحمّلتكليف واحد للتنجيزين.
وإذا لم يؤثّر العلم الإجمالي في أحد طرفيه فلا يصلح أن يؤثّر في الطرفالآخر أيضا، لكونه كالمشكوك بالشكّ البدوي، فلو قام الخبر الواحد في المثالعلى وجوب صلاة الجمعة لثبت وجوبها به وجرى في صلاة الظهر الاُصولالنافية للتكليف، كاستصحاب عدم الوجوب أو أصالة البرائة منه. فالعلمالإجمالي معكونه موجودا هاهنا يكون بلاأثر، وهذا معنى الانحلال الحكمي(1).
هذا حاصل كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله حول الانحلال
وفيه: أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزا إلاّ إذا تعلّق بتكليف فعلي من جميعالجهات، بحيث لا يرضى الشارع بمخالفته بوجه من الوجوه، والحاكم بتنجّزهحينئذٍ هو العقل.
فإذا علم المكلّف إجمالاً بوجب صلاة الظهر أو الجمعة وحكم العقل بتنجّزالتكليف عليه على أيّ تقدير ثمّ قامت حجّة شرعيّة على وجوب الجمعة فلوانحلّ العلم الإجمالي وزال عن صفحة نفس المكلف حقيقة فلابأس بعدم تنجّزالتكليف على تقدير تعلّقه بصلاة الظهر، لزوال سبب التنجّز، فيجري الاُصول
- (1) نهاية الأفكار 3: 248.
ج4
النافية في ناحيتها، وأمّا إذا لم ينحلّ كذلك، بل كان باقيا في صفحة نفسالمكلّف ـ كما هو المفروض في كلام هذا المحقّق الكبير ـ فلماذا لم يكن مؤثّرا؟!
هل يمكن الالتزام بأنّ قيام الحجّة المعتبرة على وجوب صلاة الجمعةيوجب زوال تأثير العلم الإجمالي حتّى بالنسبة إلى صلاة الظهر مع أنّ المعلومبالإجمال تكليف فعلي من جميع الجهات، بحيث لا يرضى الشارع بمخالفته،سواء كان متعلّقا بالظهر أو الجمعة؟!
وبالجملة: وجود العلم الإجمالي يقتضي أن يحكم العقل بلزوم الإتيان بكلتالصلاتين، والحجّة الشرعيّة إنّما تقتضي أقربيّة وجوب صلاة الجمعة، وأمّزوال الوجوب عن صلاة الظهر فلا.
كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله في المقام
والمحقّق الاصفهاني رحمهالله أيضا ذهب إلى كون الانحلال في هذا القسم حكميّا،لكن بتقريب آخر، فإنّه قال:
إنّ العلم الإجمالي يتعلّق بوجوب مالايخرج عن الطرفين، لا بأحدهمالمردّد، فلا ينجّز إلاّ بمقداره، وتنجّز الخصوصيّة المردّدة كتنجّز كلتالخصوصيّتين به محال، لكن حيث إنّ كلاًّ من الطرفين يحتمل أن يكون واقعطرف ذلك الوجوب الواحد المنجّز بالعلم فيحتمل فيه العقاب، وهو الحاملبالجبلّة والطبع على فعل كلّ من المحتملين، ففي كلّ طرف يحتمل الحكم المنجّز،لا أنّه منجّز، وأمّا الحجّة القائمة على وجوب الظهر بخصوصها فهي منجّزةللخاصّ بما هو خاصّ، فليس لها في تنجيز الخاصّ مزاحم في تأثيرها،فلامحالة تستقلّ الحجّة بالتأثير في تنجيز الخاصّ بما هو خاصّ، سواء كانمقارنا للعلم الإجمالي أو متقدّما أو متأخّرا، كما لافرق بين أن تكون هذه
(صفحه460)
الحجّة شرعيّة، أو عقليّة كقاعدة الاشتغال.
ولا ريب في أنّ تنجيز الخاصّ بما هو خاصّ الذي لامزاحم له يمنع عنتنجيز الوجوب الواحد المتعلّق بما لا يخرج عن الطرفين، إذ ليس للواحد إلتنجّز واحد، فلا يعقل بقاءالعلم الإجمالي على تنجيزه الذي فرض أنّه عندتعلّقه به لامانع عن تنجّزه، فيتّبع ذات الخاصّ للخاصّ بما هو خاصّ فيالتنجّز بمنجّز لامزاحم له، وإذا دار الأمر بين منجّزين، أحدهما يزاحم الآخرفي تنجيزه ولو بقاءً، والآخر لا يزاحمه في تنجيزه ولو بقاءً، لعدم تعلّقهبالخاصّ حتّى ينجّزه، فلامحالة يكون التأثير للأوّل الذي لامزاحم له بقاءً(1)،إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
نقد نظريّة المحقّق الاصفهاني رحمهالله في الانحلال
وفيه أوّلاً: أنّ مبنى كلامه فاسد، لأنّ القول بأنّ العلم قد تعلّق بوجوب ما ليخرج عن الطرفين لا بأحدهما المردّد، خلاف الوجدان، فإنّ الوجدان أقوىشاهد على أنّ العلم متعلّق بوجوب أحدهما، بمعنى أنّ الشخص واقف على أنّالواجب هو الجمعة بمالها من الخصوصيّة أو الظهر كذلك.
وثانيا: أنّه رحمهالله فرّق بين العلم الإجمالي والحجّة القائمة على أحد طرفيه، بأنّفي كلّ طرف من أطراف العلم احتمال الحكم المنجّز، لا أنّه منجّز، وأمّا الحجّةالقائمة علىوجوبالظهر بخصوصها مثلاً فهيمنجّزة للخاصّ بماهوخاصّقطعا.
وكأنّه رحمهالله خلط بين الحجّيّة والمنجّزيّة، فإنّ الحجّة سواء كانت عقليّة،كالقطع، أو شرعيّة، كالأمارات، حجّيّتها قطعيّة، وأمّا منجّزيّتها محتملة، فإنّهمنجّزة على تقدير مصادفتها للواقع، ومعذّرة على تقدير مخالفتها له، فكيف
- (1) نهاية الدراية 4: 120.