ج4
يمكن القول بتقدّم الأمارة القائمة على وجوب صلاة الظهر على العلم الإجماليبوجوبها أو وجوب صلاة الجمعة، بدعوى أنّ منجّزيّة الأمارة بالنسبة إلىخصوص وجوب صلاة الظهر قطعيّة ومنجّزيّة العلم الإجمالي بالنسبة إلى كلّمن طرفيه احتماليّة؟!
ولسيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله هاهنا إشكال ثالث، وهو أنّا سلّمنا أنّمتعلّق العلم إنّما هو وجوب مالايخرج عن الطرفين، ولكنّه يستلزم تنجيز مهو المنطبق ـ بالفتح ـ لهذا العنوان أعني نفس التكليف الواقعي، وعلى هذا فلوفرض صحّة الأمارة وتطابقها للواقع يكون مؤدّاها نفس التكليف الواقعي،فلامحالة يقع التنجيز على شيء واحد معيّن واقعي، ويكون التنجيز مستندإلى العلم الإجمالي والأمارة، لا إلى الأمارة فقط، لو لمنقل باستناده إلى العلمالإجمالي فقط، لسبقه وتقدّمه(1).
وعليه فما أفاد من أنّ الأمارة في تنجيزها بلامزاحم غير صحيح(2).
والحاصل: أنّه لا يمكن الالتزام بالانحلال الحكمي، مع حفظ العلم الإجمالي،لا بتقريب المحقّق العراقي ولا بتقريب المحقّق الاصفهاني رحمهماالله .
و للانحلال الحقيقي في المقام توجيهان:
تقريب الانحلال الحقيقي في «نهاية الدراية»
الأوّل: ما ذكره المحقّق الاصفهاني رحمهالله (3) بقوله:
ربما يدّعى انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل قهرا، إذ لم يتنجّز
- (1) فيما إذا كان متقدّما على الأمارة. م ح ـ ى.
- (2) تهذيب الاُصول 3: 120.
- (3) ذكر التقريب لا يلازم اختياره، فلا يستشكل عليه رحمهالله بامتناع الجمع بين ما ذكره هنا وبين ما تقدّم منقوله رحمهالله بالانحلال الحكمي. منه مدّ ظلّه.
(صفحه462)
بالعلم الإجمالي إلاّ عدد خاصّ مثلاً بلاعنوان، والمفروض تنجّز واقعيّاتقامت عليها الأمارات بذلك المقدار، فلو لم ينطبق عليها الواقعيّات المعلومةبالإجمال قهرا، لكان إمّا من جهة زيادة الواقعيّات المعلومة بالإجمال علىالواقعيّات المنجّزة بالأمارات، أو من جهة تعيّن الواقعيّات المعلومة بالإجمالبنحو تأبى عن الانطباق على الواقعيّات المنجّزة بالأمارات، أو تنجّز غيرالواقعيّات بالأمارات، والكلّ خلف وخلاف الواقع(1)، إنتهى موضع الحاجةمن كلامه.
وحاصله: أنّ المعلوم بالإجمال ليس له عنوان خاصّ، بخلاف المعلومبالتفصيل بمقتضى الأمارة، وغير المتعيّن في العنوان الخاصّ ينطبق قهرا علىالمتعيّن فيه، فينحلّ العلم الإجمالي حقيقةً.
وفيه: أنّ الانطباق القهري يتوقف على إحراز اتّحاد المعلوم بالتفصيل بالعلمالوجداني أو بالأمارة مع المعلوم بالإجمال، كما إذا علمنا إجمالاً بخمريّة أحدالإنائين الواقع أحدهما في اليمين والآخر في اليسار، ثمّ علمنا تفصيلاً أنّ إناءاليمين خمر والإناء الآخر ليس بخمر، وهذه الصورة لا إشكال في كون الانحلالفيها حقيقيّا كما تقدّم.
وأمّا محلّ النزاع هو ما إذا احتملنا المغايرة بين المعلوم بالتفصيل والمعلومبالإجمال، كما إذا احتملنا أن يكون الإناء الآخر أيضا خمرا، ولامجال حينئذٍللقول بالإنطباق القهري.
كلام الإمام الخميني رحمهالله في الانحلال الحقيقي
الثاني: ما اختاره سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله بقوله:
- (1) نهاية الدارية 4: 114.
ج4
قد يتوهّم أنّ ميزان الانحلال الحقيقي أن يتعلّق العلم بأنّ ما علم إجمالاً منالتكليف هو هذا المعلوم بالتفصيل، فإذا علم بموطوئيّة غنم بين قطيعة لابدّ فيالانحلال أن يتعلّق العلم بأنّ هذه الغنم هي الغنم التي تعلّق بها العلم الإجمالي.
وبعبارة اُخرى: يحتاج في الانحلال إلى أمرين: أحدهما: العلم التفصيليبمقدار المعلوم بالإجمال. والثاني: العلم بانطباق المعلوم بالإجمال على المعلومبالتفصيل، وعلى هذا قلّما ينحلّ علم إجمالي، خصوصا في الشبهات الحكميّة،بل يمكن دعوى عدم مورد فيها كذلك.
هذا، ولكنّ هذا خلاف التحقيق، لعدم تقوّم الانحلال بالعلم بالانطباق، بلاحتماله كافٍ فيه، وذلك لأنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا للأطراف إذا بقيتالأطراف على طرفيّته، وإنّما تبقى عليها فيما إذا كان الإجمال باقيا في النفس،وإنّما يبقى الإجمال إذا كان كلّ طرف طرفا للاحتمال بنحو القضيّة الحقيقيّة، أومانعة الخلوّ، فيصدق عليه: إمّا هو واجب أو الطرف الآخر، ومع العلمالتفصيلي بوجوب طرف لا يبقى الترديد، ضرورة خروج الطرف المعلومبالتفصيل عن طرفيّة العلم الإجمالي، لمناقضة مفاديهما، فينحلّ العلم الإجمالي،ولا يبقى إجمال في النفس، فيصير أحد الأطراف معلوما بالتفصيل، والبقيّةمحتملة.
وبالجملة: تنحلّ القضيّة الحقيقيّة أو مانعة الخلوّ إلى قضيّة حمليّة بتّيّة، وإلىقضيّة اُخرى كذلك، أو قضيّة مشكوك فيها، من غير بقاء العلم الإجمالي.
إن قلت: لو خرج أحد الطرفين عن طرفية العلم بالسبب الحادث لانحلّتالقضيّة المنفصلة إلى قضيّة بتّيّة ومشكوك فيها مع بقاء أثر العلم الإجمالي بلإشكال، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين في أوّل النهار، ثمّ وقعتنجاسة في أحدهما المعيّن في آخر النهار، فإنّ إحداهما تصير معلومة تفصيلاً،
(صفحه464)
والاُخرى مشكوك فيها، مع بقاء أثر العلم الإجمالي، ووجوب الاجتناب عنالاُخرى.
قلت: يشترط في بقاء أثر العلم الإجمالي أن يكون باقيا بالنسبة إلى الزمانالأوّل، أي يكون المكلّف عالما في الزمان الثاني بوجود التكليف في الزمانالأوّل، وبهذا يفرّق بين صيرورة بعض الأطراف مفصّلاً بالسبب الحادث وبيناحتمال الانطباق من أوّل الأمر، فإنّ الثاني يوجب الانحلال دون الأوّل، كما أنّهذا وجه الافتراق بين ما نحن فيه وبين الخروج عن محلّ الابتلاء، أو إتيانبعض الأطراف.
فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ ميزان الانحلال الحقيقي هو صيرورة القضيّة المنفصلةقضيّتين: حمليّة بتّيّة موجبة، وحمليّة بتّيّة سالبة إن كانت المنفصلة حقيقيّة،وقضيّة مشكوكا فيها إن كانت مانعة الخلوّ(1)، إنتهى موضع الحاجة منكلامه رحمهالله .
التحقيق في المسألة
أقول: ما أفاده رحمهالله في ميزان الانحلال الحقيقي دقيق متين، وهو يكفي فيجواب استدلال الأخباريّين بالعلم الإجمالي كما سيأتي(2).
لكنّه لا يعمّ جميع فروض المسألة، فإنّ العلم الإجمالي تارة ينحلّ بالعلمالتفصيلي(3) واُخرى بالعلم الإجمالي الصغير(4)، وثالثة تقوم الأمارة المعتبرةعلى أحد طرفيه، سواء كان في الشبهات الموضوعيّة، كما إذا علمنا إجمال
- (1) أنوار الهداية 2: 89 ، وتهذيب الاُصول 3: 121.
- (3) سواء علم اتّحاد المعلوم تفصيلاً مع المعلوم إجمالاً أم لا. منه مدّ ظلّه.
- (4) سواء علم اتّحاد المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير مع المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير أم لا. منه مدّ ظلّه.
ج4
بخمريّة أحد المايعين، ثمّ قامت البيّنة على خمريّة ما في اليمين بالخصوص، أوالحكميّة، كما إذا علمنا إجمالاً بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة، ثمّ قامت أمارةمعتبرة أو أصل عملي كذلك على وجوب خصوص الجمعة، وجميعها محلّالكلام في المقام، لكن ما أفاده الإمام رحمهالله من ملاك الانحلال إنّما يجري فيالصورتين الاُوليين، لزوال العلم الإجمالي فيهما وجدانا، وأمّا الصورة الثالثةفلا، لأنّ حجّيّة الأمارة ـ كالبيّنة والخبر الواحد ـ لا تتوقّف على حصول الظنّبمضمونه فضلاً عن العلم به، فلا تقتضي زوال العلم الإجمالي عن صفحة نفسالإنسان لكي ينحلّ حقيقةً.
فلا مجال لإجراء البرائة بالنسبة إلى غير ما قام عليه الأصل أو الأمارة، بللابدّ من الاجتناب عن المايع الواقع في اليمين بملاك قيام البيّنة على خمريّته،وعمّا وقع في اليسار بملاك العلم الإجمالي، ولابدّ من الإتيان بصلاة الجمعةبملاك قيام الأمارة أو الأصل على وجوبه، وبصلاة الظهر بملاك العلم الإجمالي.
إن قلت: إنّ الأصل النافي وإن لم يجر فيما قامت الحجّة عليه من طرفي العلمالإجمالي، إلاّ أنّه لا منع من جريانه في الطرف الآخر.
قلت: جريان الأصل النافي وعدم جريانه في بعض أطراف العلم الإجمالييدور مدار انحلاله وعدمه، فلو انحلّ بحيث كان غير المعلوم بالتفصيلمشكوكا فقط من دون أن يكون طرفا للعلم الإجمالي لجرى فيه أصالة البرائةوسائر الاُصول النافية، وأمّا إذا لم ينحلّ، بل كان غير المعلوم بالتفصيل ـ معكونه مشكوكا ـ طرفا للعلم الإجمالي فلاوجه لجريان الاُصول النافية فيه.
والحاصل: أنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ في موارد قيام الحجّة غير العلميّةعلى أحد أطرافه، لاحقيقةً ولا حكما، أمّا عدم الانحلال الحقيقي فلشهادةالوجدان بعدم زواله عن صفحة النفس، وأمّا عدم الانحلال الحكمي فلم