ولا فرق في ذلك بين كون البيان علماً تفصيليّاً أو إجماليّاً، أو أمارة معتبرة،أو أصلاً شرعيّاً.
ولا فرق في ذلك بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة، فلو شكّ في خمريّةمايع كان خمراً سابقاً لماجرت فيه أصالة البرائة، لوجود أصل حاكم عليها،وهو استصحاب الخمريّة.
ثمّ إنّ هاهنا إشكالاً، وهو أنّ الموارد التي لم يكن فيها أصل حاكم قليلةجدّاً، بل لا يبعد دعوى عدم وجودها رأساً، إذ ليس لنا مورد شكّ فيه بحسبالحكم أو الموضوع إلاّ أنّه مسبوق بالوجود أو العدم، فالاستصحابات
الوجوديّة أو العدميّة حاكمة على أصالة البرائة دائماً.
فإنّا إذا شككنا في حرمة شرب التتن مثلاً، فإن كان له حكم معلوم ـ منالحرمة أو الحلّيّة ـ في الشريعة السابقة، يستصحب، وإن لم يتبيّن لنا حكمه فيتلك الشريعة ولم يكن لنا طريق إلى استكشافه، نشكّ حينئذٍ في جعل الحرمةله إمضاءً أو تأسيساً في الشريعة الإسلاميّة، فيستصحب عدمه، ولا تصلالنوبة إلى أصالة البرائة والحلّيّة.
اللّهُمَّ إلاّ أن يكون الموضوع من الاُمور المستحدثة، كما إذا فرض حدوثالتتن بعد الشرائع السابقة، فلم يكن له حكم قبل الإسلام.
لكنّه أيضاً محلّ إشكال، لأنّ الإسلام ـ بلحاظ أبديّته واستمراره ـ عيّنأحكام جميع الموضوعات إلى يوم القيامة، وإن كانت من الموضوعات التي لمتكن في صدر الإسلام، بل حدثت بعد نزول القرآن، وعلى هذا يمكناستصحاب عدم جعل الحرمة لشرب التتن.
اللّهُمَّ إلاّ أن يقال بعدم جريان الاستصحابات العدميّة، كما عليه بعضالمحقّقين، وأمّا بناءً على المشهور ـ من جريانها كالاستصحابات الوجوديّة فلم يبق لنا مورد لا يجري فيه استصحاب موافق أو مخالف لأصالة البرائة.
البحث حول أصالة عدم قابليّة التذكية
ثمّ لو شككنا في قابليّة حيوان للتذكية بنحو الشبهة الحكميّة ـ كما إذا تولّدمن حيوانين أحدهما قابل لها دون الآخر، حيوان ثالث لا يدخل تحت عنوانأحدهما ـ فهل تجري أصالة الحلّيّة في لحمه وأصالة الطهارة في أجزاء بدنه إذذبح مع الشرائط المعتبرة في الذبح الشرعي، أم لا؟
ربما يقال: لا، وذلك لأنّ الشكّ في الحلّيّة والطهارة وعدمهما هاهنا مسبّب
(صفحه484)
عن الشكّ في كونه قابلاً للتذكية وعدمه، فيستصحب عدم قابليّته لها(1) ويحكمبحرمة لحمه ونجاسة أجزائه بعد إجراء صورة التذكية عليه.
ولا يخفى عليك أنّ صحّة الاستصحاب تتوقّف على أركان ثلاثة تستفادمن قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشك»:
أ ـ أن يكون للمستصحب حالة سابقة متيقّنة، ب ـ أن يكون له حالةلاحقة مشكوكة، ج ـ أن تتّحد القضيّتان من غير جهة الزمان.
فهل هذه الأركان موجودة في المقام أم لا؟
كلام المحقّق الحائري رحمهالله في المسألة
لقد أصرّ المحقّق الحائري رحمهالله على جريان هذا الاستصحاب، لتماميّة أركانه،وحاصل مرامه: أنّ المحقّقين قد قسّموا العرض إلى عارض الوجود وعارضالماهيّة، وكلاًّ منهما إلى اللازم والمفارق، فصارت الأقسام أربعة، وإليكتوضيحها بالمثال، فنقول: الزوجيّة عارضة لماهيّة الأربعة على وجه اللزوم،كما أنّ عروض الوجود للماهيّة يعدّ من الأعراض المفارقة لها، وأمّا القسمانالآخران أعني عارض الوجود اللازم، كموجوديّة الوجود بالمعنى المصدريونورانيّته ومنشأيّته للآثار، وعارضه المفارق كالسواد والبياض بالنسبة إلىالجسم.
وأمّا «القابليّة» فلا شكّ في أنّها من العوارض اللازمة للوجود أو الموجود،وليست من العوارض اللازمة للماهيّة، نعم، يمكن أن يقال: إنّها من العوارض
- (1) ونظيره استصحاب عدم قرشيّة المرأة، فيحكم بصيرورتها يائسة عند بلوغها خمسين سنة. منه مدّ ظلّهتوضيحاً لكلام هذا القائل.
لكن بين المثالين فرق، وهو أنّ الشكّ في المثال السابق من مصاديق الشبهة الحكميّة، وفي قرشيّة المرأةمن قبيل الشبهة الموضوعيّة، لكنّ الظاهر عدم تنظير الاُستاذ «مدّظلّه» من جميع الجهات. م ح ـ ى.
ج4
المفارقة بالنسبة إلى الماهيّة لكن بتبع الوجود، حيث إنّه يفارق عن الماهيّة،فتفارقها، كما هو الشأن في عامّة العوارض الوجوديّة.
إذا عرفت هذا فيمكن أن يقرّر الأصل هكذا: إنّ القابليّة، كالقرشيّة، منعوارض الوجود، فإنّ القرشيّة عبارة عن الانتساب في الوجود الخارجي إلىالقريش، كما أنّ القابليّة عبارة عن خصوصيّة في الحيوان بها يصلح لورودالتذكية عليه، وبها يترتّب الحلّيّة والطهارة.
وعليه فلنا أن نشير إلى ماهيّة المرأة المشكوك فيها، ونقول: إنّ ماهيّة تلكالمرأة قبل وجودها لم تكن متّصفة بالقرشيّة، ولكن علمنا انتقاض اليقين بعدموجودها إلى العلم بوجودها، ولكن نشكّ في انتقاض العدم في ناحية«القرشيّة».
وهكذا يمكن أن يقال في ناحية «القابليّة» فنقول: إنّ الحيوان الكذائيـ مشيراً إلى ماهيّته ـ لم يكن قابلاً للتذكية قبل وجوده، ونشكّ في أنّه حينتلبّس بالوجود هل عرض له «القابليّة» أو لا؟ فالأصل عدم عروضها.
نعم، لو كان الموضوع هو الوجود أو كانت «القابليّة» من لوازم الماهيّة،لم يكن وجه لهذا الاستصحاب، لعدم الحالة السابقة، لكنّ الموضوع هوالماهيّة، والقابليّة عارضة لها بعد وجودها، فهذه الماهيّة قبل تحقّقها لمتكن متّصفة بـ «القابليّة» بنحو السالبة المحصّلة، والأصل بقائها على مهي عليه، ولو صحّ جريانه لأغنانا عن استصحاب عدم التذكية، لحكومتهعليه حكومة الأصل السببي على المسبّبي، ويكون حاكماً على الاُصولالحكميّة عامّة(1).
- (1) لم نعثر عليه في «درر الفوائد». نعم، نقله الإمام رحمهالله في تهذيب الاُصول 3: 128، وفي أنوار الهداية2: 100. م ح ـ ى.