ج4
خلافاً لسيّدنا الاُستاذ البروجردي رحمهالله ، حيث قال بعد نقل كلام المحقّقالخراساني رحمهالله : أقول: بل هو من مسائل الاُصول، ولا شباهة له بالكلام أصلاً.
أمّا الأوّل ـ أعني كون مبحث القطع من مسائل الاُصول ـ فلما عرفت فيمحلّه من أنّ موضوع علم الاُصول هو عنوان «الحجّة في الفقه» وعوارضهالمبحوثة عنها في الاُصول عبارة عن تعيّناتها وتشخّصاتها الخارجة عنهمفهوماً المتّحدة معها خارجاً، كخبر الواحد والكتاب وغيرهما من الحجج،ولا نعني بالحجّة ما يقع وسطاً للإثبات كما عرفته ونسب إلى المنطقيّين أيضاً،مع أنّ المنطقي يطلقها على مجموع الصغرى والكبرى لا على الأوسط فقط.
وكيف كان، فليس مرادنا بالحجّة التي نجعلها موضوع علم الاُصول ذلك،بل المراد بها ما يحتجّ به الموالي على العبيد والعبيد على الموالي في مقام الامتثالوالمخالفة.
وبعبارة اُخرى: هي ما يكون منجّزاً للتكاليف الواقعيّة، بمعنى أن لا يكونالعبد معذوراً في مخالفتها في صورة المصادفة ويكون معذوراً إذا عمل بهوخالف الواقع، وهذه الآثار كلّها تترتّب على القطع كما لا يخفى، فهو أيضاً منأفراد الحجّة ومن تعيّناتها، فالبحث عنه بحث اُصولي، وعدم تعرّض القدماءله، من جهة وضوح مباحثه عندهم، وإن شئت تفصيل المطلب فراجع إلى مذكرناه في موضوع علم الاُصول.
وأمّا الثاني ـ أعني عدم شباهته بمباحث الكلام ـ فلأنّ غاية ما يمكن أنيقال: هو دخول المسألة في مسألة «ما يصحّ على اللّه وما يقبح» أو في مسألة«ثبوت العقاب في يوم الجزاء» وهما من المسائل الكلاميّة.
ولكن يرد على ذلك أنّ المبحوث عنه في الاُولى هو أنّ اللّه تعالى يصدر عنهالحسن ولا يصدر عنه القبيح، وأمّا تعداد صغريات القبيح فليس مربوط
(صفحه10)
بالمسألة، ولا البحث عنها من وظائف المتكلّم، والمبحوث عنه في الثانية هو أنّالعقاب ثابت يوم الجزاء، وأمّا تعداد ما يمكن أن يعاقب عليه فليس أيضاً منوظائف المتكلّم، وعلى هذا فليس البحث عن عدم قبح عقاب من خالفالقطع بحثاً كلاميّاً ولا مربوطاً به. فافهم(1)، إنتهى.
نقد كلام المحقّق البروجردي رحمهالله
وفيه ـ لو فرض أنّ البحث عن مصاديق الموضوع وتعيّناته يعدّ بحثاً عنعوارضه ـ : أنّه يستلزم قلب المسائل الاُصوليّة، فلابدّ من أن يقال مثلاً:«الحجّة هل تنطبق على ظاهر الكتاب وتتّحد معه اتّحاد الطبيعي مع أفراده أملا؟» و«الحجّة هل تتّحد مع القطع أم لا؟» وهذا عكس العناوين المتداولة فيكلماتهم، حيث يعبّرون بأنّ «ظاهر الكتاب هل هو حجّة أم لا؟» وهكذا.
وجه كون أحكام القطع أشبه بمسائل الكلام
كلام الإمام الخميني رحمهالله في ذلك
قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره في تعليقته على الكفاية:
قد عرّف علم الكلام تارةً: بأنّه علم يبحث فيه عن الأعراض الذاتيّةللوجود من حيث هو هو على قاعدة الإسلام.
واُخرى: بأنّه علم يبحث فيه عن ذات اللّه تعالى وصفاته وأفعاله وأحوالالممكنات من حيث المبدأ والمعاد على قانون الإسلام.
وأشبهيّة مسائل القطع بمسائل الكلام إنّما تكون على التعريف الثاني، لأنّه
ج4
يدخل فيه مباحث الحسن والقبح وأمثالهما(1).
وأمّا على الأوّل من التعريفين فلا شباهة بينهما أصلاً، فإنّ مسائل القطعليست من الأعراض الذاتيّة للوجود من حيث هو وجود، كما لا يخفى علىأهله(2).
وجه مناسبة أحكام القطع مع المقام
لا يخفى أنّ ما للقطع من الأحكام تناسب مسائل الأمارات من جهات:
منها: أنّ حجّيّة الأمارات ـ سواء كانت متعلّقة بالحكم أو بالموضوع تتوقّف على عدم القطع الموافق والمخالف لها.
ومنها: أنّ الحجّيّة المبحوث عنها في كليهما بمعنى واحد، وهو المنجّزيّةوالمعذّريّة.
فلا بأس بصرف الكلام إلى بيان ما للقطع من الأحكام، كما قال المحقّقالخراساني رحمهالله .
أحوال المكلّف
قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله :
إنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعى فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه أو القطعأو الظنّ، فإن حصل له الشكّ فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّفي مقام العمل، وتسمّى بالاُصول العمليّة، وهي منحصرة في الأربعة، لأنّ
- (1) ونحن نبحث في القطع تارةً: عن صحّة عقوبة من خالف القطع بالحكم الشرعي، واُخرى: عن جوازعقاب المتجرّي، وثالثةً: عن حسن مؤاخذة من خالف العلم الإجمالي مخالفةً قطعيّة أو احتماليّة، وهكذا.
ولا ريب في أنّ هذه المباحث ترجع إلى البحث عمّا يحسن أو يقبح من أفعال الباري تعالى. منه مدّ ظلّهتوضيحاً لكلام الإمام قدسسره .
(صفحه12)
الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا، وعلى الثاني فإمّا أن يمكنالاحتياط أم لا، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّفبه، فالأوّل مجرى الاستصحاب، والثاني مجرى التخيير، والثالث مجرى أصالةالبراءة، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط(1).
نقد كلام الشيخ في أحوال المكلّف
ونوقش فيه من جهات:
الاُولى: أنّ عنوان «المكلّف» ظاهر في من توجّه إليه التكليف بالفعل، معأنّ الشاكّ ليس كذلك، لأنّ الشكّ في التكليف مانع عن فعليّته، فلا يصحّ جعل«المكلّف» مقسماً للأقسام الثلاثة المذكورة.
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في المقام ونقده
ولذا عدل عنه المحقّق الخراساني رحمهالله إلى التعبير بـ «البالغ الذي وضع عليهالقلم»(2) فإنّ البالغ ـ سواء كان قاطعاً بالتكليف أو ظانّاً به أو شاكّاً فيه ـ وضععليه قلم التقنين وإنشاء التكليف، وإن لم يكن الشاكّ مكلّفاً بالفعل.
وفيه: أنّه مبنيّ على كون «المكلّف» في كلام الشيخ رحمهالله بمعنى «المكلّفبالفعل» حتّى بالنسبة إلى هذا الحكم الملتفت إليه الذي قد يكون قاطعاً به وقديكون ظانّاً وقد يكون شاكّاً.
مع أنّ ظهور عنوان «المكلّف» في التكليف بالفعل لا يقتضي ذلك، فإنّالمراد من «المكلّف» أيضاً هو «البالغ الذي وضع عليه القلم» لأنّه دخل في
ج4
سلك التكليف وصار بالنسبة إلى ما علمه من الأحكام مكلّفاً بالفعل، وإن لميكن كذلك بالنسبة إلى هذا الحكم الملتفت إليه فيما إذا كان شاكّاً فيه.
فلا وجه للعدول من عنوان «المكلّف» إلى «البالغ الذي وضع عليه القلم».
في عموميّة العنوان وخصوصيّته
ثمّ إنّهم اختلفوا في أنّ ما ذكر من الأحكام للقاطع والظانّ والشاكّ هلتختصّ بالمجتهد أو تعمّ المقلّد؟
لا قرينة في كلام الشيخ رحمهالله على تعيين أحدهما.
والحقّ هو الأوّل، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله حيث قال: «إنّ البالغالذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم واقعي أو ظاهري متعلّق به أوبمقلّديه»(1).
فإنّ ظاهر قوله: «متعلّق به أو بمقلّديه» هو الاختصاص بالمجتهد.
وبه صرّح المحقّق النائيني رحمهالله حيث قال في شرح كلام الشيخ رحمهالله :
والمراد من المكلّف هو خصوص المجتهد، إذ المراد من الالتفات هو الالتفاتالتفصيلي الحاصل للمجتهد بحسب اطّلاعه على مدارك الأحكام، ولا عبرةبظنّ المقلّد وشكّه(2)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
إن قلت: لا يمكن الالتزام بالفرق بين المجتهد والمقلّد في أحكام القطع، فإنّالقطع كما يكون حجّة بالنسبة إلى المجتهد فكذلك بالنسبة إلى العامّي، فلو قطعمن أيّ طريق بعدم وجوب صلاة الجمعة مثلاً لكان حجّة عليه ولو كان مخالفلفتوى المجتهد الذي يقلّده، لأنّ فتوى الفقيه أمارة شرعيّة على العامّي، فل